قال السيد المسيح: “مملكتي ليست من هذا العالم” (يوحنّا 18، 36)، ولم يقل: “مملكتي ليست في هذا العالم”. وشتّان ما بين حرفي الجرّ “من” و”في” وما ينجم عنهما. فالمسيح نفى أن تكون مملكته “من” هذا العالم، أي على صورة ممالك هذا الدهر. أما غياب حرف الجرّ “في” وحضور حرف “من” مكانه في الآية فيعني في جلّ ما يمكن أن يعنيه أن مملكة المسيح يمكن أن تتحقق، بالمعنى المكاني والجغرافي، في هذا العالم.
القراءة الموضوعية للتاريخ تؤكّد أن “الدولة المسيحية”، على أنواعها وهوياتها المختلفة، منذ تأسيسها على عهد الإمبراطور قسطنطين الكبير إلى يومنا الحاضر، قد فشلت فشلاً ذريعاً في تقديم نموذج دولة مسيحية تحاكي ما كان يقصده المسيح في كلامه عن “مملكته”. فشلت هذه الدولة لأنها كانت “من هذا العالم”، ولم تستطع أن تكون مختلفة عما هو سائد في الأمم الأخرى. بل ربما قدّمت الممالك المسيحية النموذج الأكثر قبحاً بين الدول عبر ممارساتها الوحشية.
أما المسيحيون فيسوع يقول عنهم: “فأبغضهم العالم لأنهم ليسوا من العالم، كما أني لستُ من العالم” (يوحنّا 17، 14). لم يقل المسيح أنّهم ليسوا في العالم، أو أنّهم يحيون منذ اليوم في السماء. قال إنّهم يُفترض بهم ألا يسلكوا بمقتضيات ذهنية هذا العالم. ولم يطلب منهم أن ينكفئوا عن نصرة المستضعَفين، بل أرسلهم كالخراف بين الذئاب ليقولوا كلمة الحق: “فكل مَن كان من الحق يصغي إلى صوتي”.
دعا المسيح أتباعه إلى التزام شؤون الدنيا والناس، والدفاع عن القيم والفضائل، وإحقاق الحق وإزهاق الباطل. فالمسيحية، على عكس ما يتصوّر البعض، ديانة لا تعنى بالأمور الروحية فحسب، بل تسعى إلى عالم أفضل يسوده السلام والعدل والمحبة والرحمة… وهذا يتطلّب جهاداً ضد الشرّ والخطيئة. وإن كانت الخبرة التاريخية محبطة من حيث عدم القدرة على إنشاء هذه المملكة المثالية الموعودة، إلا أن تحقيقها غير مستحيل، ولو كان عسيراً.
من هنا، لم يدعُ المسيح عبر قوله: “أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله” (متّى 22، 21) إلى إقصاء الله عن شؤون العالم بعامة والدولة بخاصة. بل أطلق المسيح تحدّياً كبيراً بوجه السلطة القائمة مفاده السؤال الآتي: هل يستطيع أيّ حكم أرضي أن يرقى إلى مستوى الملكوت السماويّ؟ هل يمكن تحقيق الملكوت السماويّ في عالمنا الحاضر أم يجب انتظار اليوم الأخير لبلوغ هذا الأمل؟ وهذا معنى ما ورد في صلاة “أبانا” التي علّمها المسيح لتلاميذه، فعبارة “ليأتِ ملكوتك” تتطلّب من قائلها أن يسعى عبر الجهاد اليومي لجعل هذا الملكوت حاضراً حيث يحيا “الآن وهنا”، لا أن ينتظره بكسل وسلبية وكأن الأمر لا يعنيه.
أثبتت الخبرات التاريخية في بلادنا أنّ جميع الدول التي حكمت باسم الشرائع الدينية كانت دولاً استبدادية تعاملت باستكبار مع غير المؤمنين بشرائعها، ومارست تمييزاً دينياً ضدّهم. آن أوان العمل على بناء الدولة “المدنيّة” التي تكرّم الإنسان وتحترم حريته وترفع من شأنه. ونجرؤ على القول إن الدولة المدنية حيث تسود المواطنة الحق هي التي ستنقذ الأديان من الاستبداد والاستكبار. الدولة “المدنية” هي التي ستحرّر الأديان من فساد المستولين عليها والناطقين باسمها.