لماذا تصوم؟ لأنك فقير الى الله وفي المصطلح المسيحي لأنك جائع اليه طعاما بحسب قول ابنه: “أنا هو خبز الحياة. من جاء اليّ لا يجوع” (يوحنا 6: 34). هل كلام القرآن: “أنزل علينا مائدة من السماء تكون عيدا لاولنا ولآخرنا” (المائدة 114). رأى ماسينيون المستشرق ان هذين القولين مترادفان. هذا التعييد الدائم حوّله النساك الأوائل الى صيام دائم فيه شبه الانقطاع عن الأكل لحسبانهم انهم يغتذون من الذكر. لم يعرفوا التفريق القائم في اللاهوت الغربي بين الطبيعي وفائق الطبيعة. يذهلك اذا قرأتهم ان تفهم انهم لم يقبلوا المألوف وانهم لم ينظروا الى مدى إمساكهم وقوته على انهما من الخوارق.
دائما يذهلني لما أقرأهم انهم لم ينظروا الى الطبيعة البشريّة وقدرتها مع انهم اوصوا بعدم الغلو. ولكن اذا نظرنا نحن المعاصرين الى ما تمّموه نراه غير قابل للتصديق. بالمقاييس العلمية كان يجب ان يموتوا ولم يموتوا. بمعاييرنا اخترقوا كل قواعد العلم حتى لنتساءل لماذا قاموا بكل هذا؟ هل كان كل هذا التقشف ضروريا؟
اذا كنت تعرف ان كل ديانات هذا الشرق نشأت بعبادة الجنس (أفروديت، عشتار، عشتروت) تفهم ابتعاد آبائنا عن هذه العبادة وتفهم تشديد الأوائل على العفة ومراقبتهم الشديدة لوظائف الجسد. لماذا كانوا مثلا يقولون انك ان لم تقمع الشراهة لا قدرة لك على بلوغ اية فضيلة؟ ألم يقل فرويد هذا في تحليله النفسي بلا رجعة منه الى اي دين؟ قال آباؤنا قبل علماء اليوم ان كلّ اللّذات متماسكة. عرفوا بخبرتهم الروحية ما كشفه العلم المعاصر. بهذه الخبرة قالوا ما قالوه عن ترابط اللذات وعندما كافحوا لذة الطعام او حاربوا غلوها كانوا يكافحون كل اغراء جسدي لارتباط الكل بالكل.
يؤذيني جهل المسيحية عند الذين يتهمونها بأنها ضد الجسد وهي ضد استفحاله او تفلته من كل قيد. أليس الجسد برز بالدرجة الأولى في الفن المسيحي؟ أليست العناية الطبيّة بالجسد كانت فائقة في البلدان المسيحية الراقية. اما الاستغراء في الجسد فليس حكرا على البلدان المسيحية. أليس كتاب الأغاني كتابا يستغرق قارئه في الجسديات وهو ليس لمؤلفين مسيحيين؟ أليس قول الدعاة ان الشرق روحاني والغرب جنسي قولا اقله انه قليل الصدق او غير دقيق.
عند هذا لا بد ان نقول اننا لم نستورد عبادة الجنس من الغرب. ألست تستغرب ان الغزل طاغ على الشعر العربي منذ القرن السادس الميلادي وان ليس له أثر في الألفية الميلادية الأولى في آداب الشعوب المسيحية.
واذا عدنا الى العبادة ففي الوثنية الشرقية (فينيقيا وبلاد ما بين النهرين) وفي ممارسات الحب في هذا الشرق عينه كزواج الأخ بأخته في مصر القديمة لم تعف شعوبنا أكثر من غيرها. في الواقع الأدبي الذين أبدعوا الغزل هم الشعراء العبران ومن بعدهم ظهر الغزل العربي “والشعراء يتبعهم الغاوون” (الشعراء 224).
التغني بالجسد بدأ في هذا الشرق لما كانت اوروبا في أدبها عفيفة. الكتابة المتهتكة عربية قبل الف سنة من اليوم ولم تشرف عليها سلطة او رقابة في حين ان المسرح كانت الكنيسة الكاثوليكية تكافحه في الغرب.
***
من الخرافات الواردة على لسان النقاد المعاصرين ان الكنيسة كانت دائما ضد الجسد. الحق ان الكنيسة ضد الزنى وليست ضد الحب الانساني الكامل قائما بين الرجل والمرأة. لست اعرف تعظيما للزواج كذلك الذي أعرفه في حفلة الزواج في الكنيسة المسيحية. صلاة الإكليل عندنا شعر. لك ان تفهم الزواج عقدًا ولكن هذا هو الحد الأدنى من الترابط بين الرجل والمرأة. بعد هذا تسمع في حفلة الإكليل انه صورة عما نسميه الرباط السري (اي القائم في سر الله) وهذا السر منعكس في لقاء العروسين.
ليس في المسيحية عقد بحت. كل شيء فيها سر إلهي اي عهد بين الله والانسان والعقد الله مبدؤه او عاقده. ليس في المسيحية نطاق ديني إلهي محض ونطاق مدني بحيث يكون كل شيء إلهيا وانسانيا معا. كل هذا بنيناه على صورة الإله المتجسد واذا قلنا ان الانسان جاء من الله نقصد انه جاء على صورة ما سيكون المسيح عليه اي إلهًا متجسدا.
نحن لسنا على صورة المسيح في تأنسه الإله فحسب ولا علـى صورته البشرية فحسب لأن هذه مثل صورتنا. نحن على صورة الإله المتجسد اي مؤهلون لاكتساب النعمة الإلهية الأزلية. على مثال المسيح نحن من الله جئنا واليه نعود ولكنه هو اتخذ جسدا ونحن كنا في جسد. وكما عاد هو الى ابيه بجسد قيامته نعود نحن اليه بالموت اولا وبالقيامة الاخيرة ثانية. وموتنا بدء تذوق لقيامتنا.
***
الرجل والمرأة واحد ولكن في الله. ليس اني انكر وحدة الجنس فيهما. غير ان هذا لا يتجلى في عمقه ومداه الا اذا كان في الله. ليس من فاصل عندنا بين الصعيد الطبيعي والصعيد الفائق الطبيعة. الرب رابط هذه الطبيعة بما يتعداها، بما يرفعها الى ان تصبح لغة الله وأداة الله.
يتكلّم علماء النفس عن التكامل بين الجنسين. الحقيقة انه ان لم يكن تكاملا في الله قد يصبح خصومة او عداوة حتى الانفكاك. يتكلم العلماء عن توتر بين جنسين. المهم ان نعرف ان التجاذب بين الجنسين تهدده عداوة بين الجنسين تبدو كثيرا في الحياة الزوجية.
التجاذب الطبيعي لا تسنده قواه وحدها اذ هناك بين الجنسين رغبة التسلط فالانشداد الطبيعي قرينه التباعد الطبيعي الذي يصل الى التنافر حتى القتل. الرجل ليس ضمانة للمرأة ولا هي ضامنة له في طبيعتها. كل شيء هنا تربية في الأقل وروحانية في الأكثر. الإنسان ليس بآلة. انه يكونها ان لم يحركه الروح. يبدأ الانسان جسدًا اي كيانًا طبيعيا ويجعل الله فيه بعد ذلك دعوة.
الانسان ثمرة الله بالدعوة او ليس بشيء. يصعد من هذا التراب. وترابه يتوهج بضياء إلهي اذا أشرف الله عليه وقبل هو هذا الإشراف.
***
الانسان اسم يطلق في الدعوة على الرجل والمرأة اذا اجتمعا. وقد عرّف سفر التكوين الانسان على انه الرجل والمرأة معا. نية الكاتب في هذا السفر ان يبيّن ان الرجل والمرأة اذا كانا معا هما الانسان الكامل. ولكن الخطر الاعتقاد انهما يصيران ذلك بمجرد اجتماعهما. انهما يجتمعان للحب او للحقد. ليس من حب منبثقا من مجرد الطبيعة. الحب يأتي من القلب وهو ليس بذاته فقط. ينشئه الحب الإلهي. اذ ذاك يصبح القلب سليما لسكنى الله فيه.
هذا ليؤكد للمرة الأخيرة ان الرجل والمرأة اذا ظنا انهما يصيران معا بحسب الطبيعة يكون هذا رؤية ناقصة. الله يجعل الذكر انسانا بحبه للمرأة والمرأة انسانا بحبها للرجل. الله يبقى خالقا بعد الخلق اي مجددا له. نحن في حضن الله دائما او نموت من قلة الدفء.
الدفء في الله وحده. قبل بلوغنا الله حقا كل شيء صورة. ما من شيء الا بتحقيقها في هذا العالم منذ الآن ان رأينا انفسنا قائمين في حضن الله.