قصّة الحضارة قصّة هرب وكذب!
آدم وحوّاء هربا من وجه الله وحاولا أن يختبئا وسْط شجر الجنّة لأنّهما خشياه. ولماذا خشياه؟ لأنّهما عصياه. رفضاه. كرهاه. كرِها عشرته. الخشية في المعصية تبدأ خجلاً وتنتهي عداء! الإنسان يعادي الله. الله لا يعادي أحدًا. لمّا عصى الإنسانُ اللهَ قتلَه. قتله في نفسه. الوصيّة من الحبّ. فلأنّه عصاه نبذ حبّه. وإذ نبذه صارت وصيّة الله عليه ثِقلاً. متى هرب الإنسان من وجه الله لا يعود لوصيّته، في عينيه، معنى. ولا يدري المسكينُ أنّه بهربه من الله يهرب من نفسه. يهرب من الحبّ لأنّه مخلوق على صورة الله ومثاله. والإنسان قلب. والهرب من الحبّ سقوط في الفراغ واللاّمعنى. ارتداد، ولكن وجوديّ… إلى العدم!
وكما قتل آدمُ وحوّاءُ اللهَ في نفسيهما وسعيا إلى الهرب من وجهه وهْمًا، قتل قايينُ اللهَ في هابيل أخيه، وصار تائهًا، هاربًا في الأرض. “ولماذا ذبحه؟ لأنّ أعماله كانت شرِّيرة وأعمال أخيه بارّة” (1 يوحنّا 3: 12)!
هكذا، في البدء، بدءِ الحضارة، كان الهرب فكان القتل والكذب! غير صحيح أنّ هناك موتًا. للحياة كان الإنسان لا للموت! أمّا هو فاخترع القتل اختراعًا! “الله صنع الإنسان مستقيمًا، أمّا هم فطلبوا اختراعات كثيرة” (الجامعة 7: 29). كلّ ما ليس مستقيمًا، أي من الحبّ، اختراعٌ بشريّ. وكلُّ اختراعٍ بشريّ، كائنًا ما كان، هو، في عمقه، هربٌ وكذبٌ ويَقتل، مهما بدا قويمًا ومفيدًا. مَن يحبّ، كلُّ شيء بين يديه يُحيي، ومَن لا يحبّ، كلّ شيء بين يديه يَقتل! مَن يحبّون يلتقطون من اختراعات النّاس الفتات للمنفعة، كما من موائد أربابها. أمّا أكثر ما على الموائد فيذهب لحشو الأحشاء الصّمّاء، كما لتحنيطها، ليبقى لها مظهرُ الحياة… والباقي لصندوق القمامة!
ثلاثة يهرب بها الإنسان من الله ليملأ ما خلّف غيابُ الحبّ في كيانه من فراغ كذبًا وعبثًا، وما يستطيع: المتعة والمال والسّلطة!
لكلّ ما خلقه الله للإنسان مِتعتُه. ليست المشكلة أن تتمتّع متى تناولت الطّعام. المتعة بعضٌ من الطّعام. المشكلة أن تُدمن من الطّعام المتعة. تطلبها، إذ ذاك، لذاتها. تمسي لديك الهمَّ والهاجسَ. الطّعام لسدّ الحاجة، أمّا المتعَةُ فاستغلال للأطعمة التماسَ طيِّباتها. القيمة، إذ ذاك، للمتعة لا للطّعام. ما ليس متعة تمجّه وتستخفّ به وتتخلّص منه. وفي ذلك تحويرٌ وتشويهٌ لعلاقة الإنسان بالطّعام. كما أنّ في ذلك احتقارًا لمَن يعطيك الطّعام. ما يجري التّخلّص منه من أطعمة لأغراض مِتعويّة استهلاكيّة، كلّ عام، أكبر بكثير من حاجة الجوعى إلى الغذاء في العالم! لأجل المِتعة يُذبَح أقوامٌ كلّ يوم!
ثمّ، في المتعة استهلاك للجسد ولما في الأرض من أجل المتعة. هذا يشترك فيه الجميع. الكلّ به مجرَّب. الفقير والغنيّ، الصّغير والكبير، العاجز والقادر. كلٌّ ينهل من المتعة ما وَسِعه في الواقع أو في الفكر. ليس أحد خلوًا من صنم الرّغبة! ليس همّ المجتمعات أن ثمّة طبقة لها وأخرى ليس لها؛ المشكلة أنّ هناك مَن يتسنّى لهم أن يُشبعوا رغبات نفوسهم، وهناك مَن لا يتسنّى لهم! على أنّ الكلّ من طينةِ شهوةٍ واحدة، وجوعٍ إلى المتعة واحد، ما يجعل المأساة، في العمق، “أنّ الجميع ضلّوا وتدنّسوا. ليس مَن يعمل صلاحًا، كلاّ ولا واحد” (مزمور 13: 3)! صراعات العالم وحروبها صراعات أهواء!!!
وكما يهرب الإنسان من الله بالمتعة، يهرب، بالأكثر، بالمال. المال اختراع رهيب! لا تحتاج طيور السّماء إلى مال لتأكل. فكرة المال، ما أصلها؟ حبّ القنية والطّمعُ والحسَد والبخلُ… هذا لي وليس لك! لو كان كلُّ شيء لي ولك معًا، لما كانت هناك حاجة للمال! الحبّ يُبطل حبّ المال، وحبُّ المال تعويضٌ أجوف عن غياب الحبّ! ثمّ المال يُلتمَس تأمينًا للمتعة. يرافقه، عادة، إحساس بالقوّة يوحي، من جهة، كذبًا، بالأمان، من حيث إنّ الإنسان، في عمقه، من دون الله، خائف من الآتي؛ ويبلِّغ، من جهة أخرى، إلى السّلطة، من حيث إنّ السّلطة أعظم المِتَع المرتجاة لأنّها توحي وهمًا بالألوهة! السّلطة ألوهةُ السّقوط! كلّما استبدّ هوى المال بالنّفوس كلّما كان هذا دليل فراغ أعمق وضياع أكبر، وتعذَّرَ على المرء أن يحبّ. أصحاب المال الّذين يحبّون محبّةً عميقة قلّةٌ عزيزة. الحبّ يشدّ إلى الفقر الطّوعيّ الكامل! الغنيّ، إن أحبّ، صار على مثال ربّه، فقيرًا، ويملك كلّ شيء…
وأقصى الأرض الّتي بإمكان الإنسان، ويشتاق إلى الهرب إليها، السّلطةُ! بذرة حبّ السّلطة عميقة وعنيفة في كلّ نفس. كلّ ما يأتيه على صعيد المتعة وعلى صعيد المال، فيه نكهةُ حبّ السّلطة. مِن السّلطة يستمدد الكيانُ السّاقط معنًى لذاته وقيمةً لحياته. مِن تسلُّط الإنسان، بجسده، على أبسط المخلوقات، كأن تسحقَ نملة، إلى تسلّطه على الطّبيعة في وسعها، إلى تسلّط الإنسان على الإنسان! لا يشعر المرء، في سقوطه، أنّه موجود إن لم يملك على شيء أو على أحد! أَوضَعُ السّلطة أن يستهلك الإنسان جسده، أن يستعمله، أن يستغلّه، أن يستنفده! الزّواج، لمَن يهرب من الحبّ، مَطرحُ سلطة! العائلة مطرحُ سلطة! العشيرةُ مطرح صراع على السّلطة! القرية! المدينة! البلد! العالم… هنا تولد السّياسة. من هذا الحشا يخرج السّياسيّون. لا هَمَّ ما يقولون، ولا حتّى ما يبدر عنهم. ما يقولونه دعاية ملفّقة، وما يبدر عنهم تمويه مبرمَج! الأهمّ ما في قلوبهم! دوافعهم العميقة. قد لا يعون ماذا يفعلون. مهما حاولوا، لا طاقة لهم على الخروج من جلدهم! يكذب الإنسان على نفسه ويصدِّق نفسه! ليس كخطيئة القلب تعلِّم الالتباس، ولا كخطيئة القلب تعلِّم المكيجة! في نهاية المطاف، الإنسان غارق في جبّ الكذب لأنّه لا يشاء أن يعرف حقيقة نفسه! الإنسان، في سقوطه، بات بحاجة لأن يَكذِب ولأن يُكذَب عليه! الحقيقة ثقيلة لا يحتملها! ييأس ويموت، في الحال الّتي هو فيها، إن عَرفها! يهرب بالكذب، يدري ولا يدري، ليحافظ على صورته عن نفسه، بإزاء نفسه، وبين النّاس! لا يطيق أن يتعرّى كيانُه. هو من نسل آدم وحوّاء وحاملٌ لعنتَهما! “اختبأ آدم وامرأته من وجه الرّبّ الإله”. “سمعتُ صوتَكَ في الجنّة فخشيت لأنّي عريان فاختبأتُ”، قال آدم لمّا سمع صوتَ الحقّ، صوت الضّمير، صوت الله! عرف أنّه عريان ولم يشأ أن يعترف تائبًا أنّه عريان. اختبأ، هرب، ليخبِّئ عُريه، ليهرب من نفسه، من حقيقتها، في استكباره، في انتفاخه! بات الكذب لديه حاجة أحشائيّة!
مَن آمن لا يهرب، قال إشعياء النّبيّ! وإن هرب لا يستمرّ في الهرب إلى النّهاية. يتوب! نهاية الهرب عِشْرة الخنازير الفكريّة وأن تطعمها لحمَك! إذ ذاك، نفسُك تُذلّك. تحتقر نفسَك. مهما تخفّيت. مضى العمر وماذا حصّلت؟! ساعةُ الموت آتية لتفضحك وتضع حدًّا لهربك وتدكّ حضارة الكذب الّتي بنيتها في هروبك، واستمتعت بها: “هذي آلهتك يا إسرائيل!” ماذا جنينا إلاّ التّعب؟! تعالوا إليّ يا جميع المتعَبين… فتجدوا راحة لنفوسكم. إن لم تؤمنوا فلا تأمنوا! لِمَ تهرب منّي يا بنيّ وأنا أودّك؟! “أتحبّني يا بطرس؟!” أقوم وأعود إلى أبي… أخطأت إلى السّماء وأمامك… اجعلني كأحد أجرائك! عليك بالصّوم يا بنيّ! أما تعبتَ من مِتَع الفراغ بعدُ؟! من أنفك خرج قيئُك! ومالُك، أأتى بك إلى الفرح؟! أنفقتَ ما جمعتَ على زواني قلبك! ما أحبَّك أحدٌ لأنّ لك مالاً! أحبّوا مالَك وكذبوا عليك! تكذب عليهم يكذبوا عليك! لا تتوقّع أن يصدقوك! ثمّ يتركونك وحدك مهيضَ الجناح ويذهبون باحثين عن طريدة أخرى! حيث تكون الجثّة هناك تجتمع النّسور! لاحظ “الجثّة”! قتلى الأكاذيب تبحث عن قتلى هاربة! أنا غناك لأنّي أحبّك! لست أطلب ما لكم بل إيّاكم! ثمّ هوس السّلطة، أي جبّ أسقطتَ نفسَك فيه؟! أتريد أن تصير إلهًا كذوبًا؟! هذه مسرحيّة الدّمّ! تلعق دمَ نفسك! خلقتكِ جميلةً، يا إسرائيل، فما بالك تتمرّغين في الحمأة؟! خلقتكِ نقيّة كالنّور، فما بالك تختبئين في الظّلمة وظلال الموت؟! خلقتُكِ للفرح، للسّلام، للحياة، فما بالك تستجدين المتع العابرة بالعبث، والسِّلْمَ بالقتل، والحياةَ بالقلق؟!
تعالي يا حبيبتي، يا أخيّتي، يا لهاث روحي، أغسلك بالصّوم! فقط توبي! توبوا إليّ أتبْ عليكم! “هلمّ نتحاجج… إن كانت خطاياكم كالقرمز تبيضّ كالثّلج. وإن كانت حمراء كالدّوديّ تصير كالصّوف…” (إشعياء 1: 18)!
تعالَي، لا تخافي! أحببتُكِ وسأحبّك! ادخلي في مسار النّور! فجرٌ جديد أشرق ويشرق اليوم! تعالوا إلى قيامتي! إلى عرسي! ذبحت لكم العجل المسمَّن، ذاتي! المائدة ممدودة وأنا في الانتظار! زمن الدّموع ولّى! دموع الفرح حلّت! لا هروب بعد! لستُ إلهًا منتقمًا! آمنوا! صدّقوا! ثقوا! أنا هو! مَن آمن لا يهرب، لأنّه يعرف، أخيرًا، أنّ الله محبّة ويحبّه! سلام عليكم!