أن تكون على حقّ شيء وأن تكون في الحقّ شيء آخر تمامًا. إذا قلتَ مثلاً: لبنان بلد طائفيّ فأنت على حقّ. أمّا إذا عاملت أيًّا كان، بغضّ النّظر عن طائفته، كأخ، كقريب، فإنّك تكون في الحقّ! لكي تكون على حقّ، في وسط معيّن، تحتاج لأن يكون لك حسّ مشترك مع الجماعة الّتي إليها تنتمي. هذا، بعامّة، له علاقة بالمعارف، بالأعراف، بالقوانين، ويلامس ناموس الطّبيعة البشريّة بقدر أو بآخر. ليس شيءٌ، في هذا الشّأن، في المطلق، أو بديهيًّا، بمعنى الكلمة. إلى ذلك ما يُصنَّف في فئة حقوق الإنسان أو القوانين الدّوليّة، حتّى لا نتكلّم على الأمور المعتبرة منطقيّة أو علميّة، يتبيَّن، يومًا بعد يوم، أنّها تخضع لتفسيرات وتطبيقات متباينة.
أنّى يكن الأمر، فأن تكون على حقّ ذو صلة بمفهومَين أساسيَّين: القانون والعدالة. أمّا القانون فيحدِّد، بعامّة، ما لك وما عليك، في سعي لإخضاع، ما يُظنّ من أمور الشّان العامّ، إلى ضوابط تنظّمه. فإذا ما جرى تنفيذ المقولات القانونيّة، مع ما تستدعيه من اجتهادات، وفق الحالات والظّروف، قيل عن ماجريات التّنفيذ إنّها عادلة، وعمّا هم على حقّ إنّهم نالوا حقوقهم. غير أنّ ما يأخذه المشرِّع في الاعتبار رهنٌ بالنّظم الّتي يعيش في كنفها، وكذا بالقناعات، وأحيانًا بالمصالح، الشّخصيّة أو الإيديولوجيّة أو الفئويّة أو ما أشبه. ليست هناك معايير لا عيب فيها. الشّؤون نسبيّة. قد تكون القوانين مائلة إلى الإنصاف، وقد تكون مائلة إلى الظّلم. قد تُنصف شريحة من النّاس وقد تظلم شريحة أخرى، وقد تظلم الأكثرين. في كلّ حال، لا قوانين تنصف كلَّ النّاس في كلّ الأحوال. هذا مجال صراع فكريّ واجتماعيّ وسياسيّ لا نفاذ منه ولا قرار له! مهما فعلتَ، ومهما حاولتَ، على هذا الصّعيد، سيبقى هناك مستغِل ومستغَل! سيبقى هناك تحيُّز أو إغفال أو تهميش! ومن ثمّ لا عدالة حقّانيّة معمَّمة تُرتجى في إطار مؤسّسة القانون، ولا حقّ لكلّ مَن كان على حقّ قاطبة! قد تعتمد الأكثريّةَ مقياسًا لمشروعيّة قانون ما أو نجاحه. هذا باطل! الأكثريّة عدد، والعدد لا يَصنع الإنسانيّة! الإنسان لحم ودم ونفس وليس رقمًا! لذا إنسان واحد، في بقعة منسيّة، لا يؤخذ في الاعتبار، يُبطِل كلّ قوانين الأرض، ويجعل العدالة العرفيّة بين البشر سِقطًا، ويطيح ما تعتبره الجماهيرُ حقًّا، ويحكم على كلّ تدابير النّاس بغير الإنسانيّة، إن لم يكن في الكلام ففي تجسيد الكلام!
القانون نظام وجدانيّ وظيفته التّهيئة للإنسانيّة المأمولة. نطاق اهتمامه إبرازُ الباطل في الشّأن العامّ والعملُ على ضبطه والحؤول دونه. عدالتُه، بالأحرى، ردعيّة! يؤكّد ما عليك ألاّ تفعله لا ما عليك أن تفعله! الحقّ الّذي يوفّره لك القانون هو أن تكون في حِماه من أذى الآخرِين؛ ويطالبك بحقّ الآخرين عليك ألاّ تتسبّب في أذيّتهم! هذا حقّ سالب: لا تقتل، لا تسرق، لا تشهد بالزّور… هذا لا يجعلك إنسانًا. هذا لإخراجك من وحشيّتك، من غربتك، من لا إنسانيّتك! قد لا تسرق. ماذا إذًا؟ هل يجعلك ذلك إنسانًا؟ هل تكون إنسانًا إذا لم تسرق، وفق المعايير القانونيّة للسّرقة، ولكن تركت الجائع أمامك يتضوّر جوعًا فيما تُلقي بخبزك للكلاب؟! هل تكون إنسانًا إذا لم تشهد بالزّور ولكن تركت المريض يموت عند باب المستشفى لأنّه ليس له مال، فيما أنت تُمسك مالك لتنفقه على شراء سيّارة سباق، آخر موديل؟! القانون يحميك من تهمة القتل طالما لم تطلق النّار على أحد وترديه قتيلاً، ولو كدّست أموالك في البنوك وتسبّبت، من حيث لا تدري، بقهر الّذين يعملون في المصنع لديك! ما المنفعة إن وقّرت القانون – هذا إن وقّرته – وغرقت في أنانيّاتك حتّى الانعدام الكامل للإحساس بالآخرين وآلامهم؟!
إذًا، ليس من الإنسان أن يكون همّك أن تُثبت أنّك على حقّ، وأن تحصِّل ما هو من حقّك وما ليس من حقّك، بحمى القانون! هذا لا قيمة إنسانيّة له بالضّرورة! قرأتُ، منذ أيّام، بعض أسماء من لائحة مجلّة “فوربس” الأميركيّة، الّتي أحصت أكثر من ألف ومائتين من أصحاب المليارات، فيما أكثر من نصف سكّان الأرض دون مستوى الفقر! الكلّ في حمى القانون! أولئك حقّهم “محفوظ” في تكديس خيرات الأرض، وهؤلاء في أن يتمرّغوا في الجوع والمرض والمعاناة والموت… بإمكان الإنسان أن ينحدر إلى ما هو دون مستوى البهيميّة والغوغائيّة تحت جنح القانون! فمتى حصل له ذلك استحال الحقّ لديه إطارًا للباطل!!!
الحقّ الّذي يتآخى والباطل، أو يمكن أن يشكِّل إطارًا له، مِسخٌ، ومآله، في نهاية المطاف، الباطل! والعدالة الّتي تزّكي حقًّا منقوصًا عدالةٌ للموت لا للحياة. والقانون الّذي يؤطّر عدالة يمكن أن تتآلف والباطل هو قانون لحماية القويّ من الضّعيف والغنيّ من الفقير والذّكيّ من الغبيّ!
الحقّ الّذي إليه نتوق لنصير بشرًا مكمَّلين هو إشعاع قلب يحبّ! فقط في الحبّ لا مكان للزّغل، لذا لا مكان في الحقّ المنبثق منه لباطل! الحقّ هو ما تقيم فيه، ومن باب أَولى ما يقيم فيك! ما لم ينبعث الحقّ من القلب المحبّ فلا قيمة له. ما هو من العقل وليس إشراقَ حبّ يدمِّر! نقّ قلبك يَنْقَ العالمُ من حولك! النّور يخرج من القلب ليملأ الأرض وهجًا! الحقّ، خِلوًا من الباطل، كيانٌ ينبض بالحياة ويبذرها وليس فكرًا! ولا حقّ ينبع إلاّ ممّن كلّه الحقّ وأصل الحقّ ومآله! “أنا هو الحقّ” قال إيّاه مَن قال “الله محبّة”! وكما القلب ينعطف على القلب، “لجّة تنادي لجّة”، كذلك يستدعي الحقُّ الحقَّ! “أنا نور العالم” يستتبع “أنتم نور العالم” لأنّنا منه! لذا كان الإنسان، في جوهره، كيانًا للمحبّة أو يموت، ومن ثمّ كيانًا للحقّ أو يرتع في الباطل! الحبّ قائم، أبدًا، في الحقّ، والحقّ قائم، أبدًا، في الحبّ!
أنت في الحقّ إن أحببتَ وإلاّ لا تعرف الحقّ. ليس ما تَظهر عليه هو المهمّ بل ما أنت عليه في القلب. إن كانت عينُك نقيّة، أي ذهن قلبك، إذ ذاك تصير كلُّك طاهرًا، وما تمسّه يَطهر! وإن كان الدّاخلُ فيك نجسًا فلا تتعب، لأنّك عبثًا تتعب، كلُّك وما حولك يصير، إذ ذاك، نجسًا ويبقى نجسًا مهما جمّلته ومَكْيَجَته ومثّلتَه!
على هذا الحقّ، على هذه الصّخرة، يُبنى العالم أو يسودّ حتّى الظّلمة القصوى!
ما سبق أن قيل: “لا تقتل، لا تسرق، لا تشهد بالزّور…” كان ليُعدَّكَ لما يتخطّى القانون، لما كان القانون من أجله، للنّعمة. “وصيّة جديدة أُعطيكم أن تحبّوا بعضكم بعضًا كما أنا أحببتكم”. انتهى واكتمل! الكّاس الّتي تنقّيها بالقانون تعدُّها لمشروب المحبّة وإلاّ تبقى فارغة برسم الباطل، ويكون جلّ ما قوننتَه لهوًا وعبثًا وضياعًا! “ليس هو ههنا”. القبر فارغ… ابحثوا عنه – عن النّاهض من بين الأموات – تجدوا أنفسكم! لأنّ الإنسان قلب لا مكان يرتاح فيه حقًّا إلاّ القلب! القلب إلى القلب إلى قلب الله! بعدما جعل يوحنّا الحبيب رأسه على صدر السيّد لم يَعد له، كسيِّده، مكان على الأرض يسند إليه رأسه! أخيرًا أخذ روحًا وارتاح! “ناموا الآن واستريحوا… قوموا ننطلق” (متّى 26: 40 – 46)!
لذا عدالة جديدة حلّت. أن تعدل معناه أن تخدم! أن تريح لا أن ترتاح. راحتك، في المحبّة، في الحقّ، تأتي من إراحة الآخرين. تأتي من فوق. هو وحده يريحك. الجسد لا ينفع شيئًا، الرّوح هو الّذي يحيي! الأرض موضع لتعب المحبّة. هنا تكمن الرّاحة الحقّ! لمّا قال القدّيس سلوان: “أخي هو حياتي”، عبَّر عن كون الإنسان يستمدد حياته ممّا يعطيه، ويأخذ متى أَعطى. لأنّ الله محبّة بَذَل السّيّد نفسَه حتّى الموت، موت الصّليب “لذلك رفعه الله أيضًا، وأعطاه اسمًا فوق كلّ اسم لكي تجثو باسم يسوع كلّ ركبة ممّن في السّماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض…” (فيليبي 2: 9 – 10).
في عالم انقلب فيه الحقّ، بعامة، باطلاً والباطل حقًّا، بات كلام الحقّ أدنى إلى الجنون! الهمجيّة تعود بحلّة جديدة، متمدّنة أحيانًا، إلى أقصى مداها! صادوم تستعاد كونيًّا! أخيرًا بيت الخواء يكتمل! هوذا بيتكم يُترك لكم خرابًا!