وحدها الحقيقة تشفي. ولكنْ، يؤثر الأكثرون الكذب! لذلك يتقلّبون في أمراضهم على غير طائل!
أمّا الحقيقة فأوّلها أن تعرف خطيئة نفسك كما هي، وأن تعترف، بإزاء نفسك، بما أنت فيه. ومنتصفها أن تتّضع وتتوب. ومنتهاها أن تعرف الله!
أن تعرف نفسك ليس معناه أن تعرفها لوهلة ثمّ تعبر وتنسى أو تتناسى حقيقتها، على نحو ذاك الّذي يسمع الكلمة ولا يعمل بها، الّذي يقول عنه يعقوب الرّسول إنّه “يشبه رجلاً ناظرًا وجهَ خِلقته في مرآة، فإنّه نظر ذاته ومضى، وللوقت نسي ما هو” (يعقوب 1: 23). أن تعرف نفسك معناه أن تتعمَّد ألاّ تنسى خطيئتك أبدًا! “خطيئتي أمامي في كلّ حين” (المزمور الخمسون). الموضوع ليس أن تأخذ “عِلمًا وخبرًا” بها، كما تأخذ عِلمًا وخبرًا بأيّ حدث جرى أو يجري، من قريب أو بعيد. هذه معرفة خارجيّة. حتّى هذه ينبغي أن تكون مرتبطة بموقف داخليّ لائق. فكيف بالمعرفة الدّاخليّة، معرفة الذّات؟ هذه تحتِّم موقفًا متواترًا يعتور السّلوكَ كلَّه! دونك المثل التّالي: إذا عرفت أنّ جارك تعرَّض لأزمة قلبيّة، فمعرفتك بما جرى له تكون في مستوى “العِلم والخبر”. لكنَّ هذا يستدعي منك، كمؤمن، موقفًا: أن تَسأل عنه، أن تفتقده، أن تمدّ له يد المساعدة، إذا ما كان في عوز، أن تسأل عنه بتواتر، أن تُعلِمَ الكاهن بأمره لكي يأتي إليه، لكي يصلِّي من أجله، لكي يأتي إليه بالقدسات الخ… فكيف إذا اكتشفتَ، فجأة، أنّك مصاب بالسّرطان؟ هذا يجعل السّرطان أمامك في كلّ وقت! ينبعث فيك الخوف من الموت. تجدك تبادر، دون تلكّؤ، بثبات وإصرار، إلى طلب الشّفاء: أطبّاء، فحوصات، معالجات، مراجعات الخ… الخطيئة أسوأ من السّرطان، أو قل هكذا ينبغي أن يكون موقفُنا منها، وإلاّ نرتع في الجهل، أو نكون بشرًا جسدانيِّين نفسانيِّين!
أن تعرف نفسَك معناه أن تأتي إلى يسوع، الرّبِّ يسوع المسيح له المجد، لأنّه هو، وهو وحده، مَن يخلِّص شعبَه من خطاياهم (متّى 1: 21)، أي هو الطّبيب الأوحد الشّافي من الخطيئة. لماذا عليك أن تهتمّ بشفاء نفسك من الخطيئة فوق كلّ اعتبار؟ لأنّه بالخطيئة دخل الموت إلى العالم (رومية 5: 12). وخوفًا من الموت، صار النّاس كلَّ حياتهم تحت العبوديّة (عبرانيِّين 2: 15). هذا يتضمّن، بكلام آخر، أنّ سلوك النّاس بات، مذ ذاك، محكومًا بالخوف من الموت، والخوفُ من الموت بات السّبب لإلقاء النّاس في العبوديّة للخطيئة! تهتمّ بشفاء نفسك من الخطيئة، إذًا، لأن لك في ذلك تحرّرًا من الخوف من الموت، فلا تعود حياتك سلسلة من ردّات الفعل العبثية ٱتقاء الموت!
إذ ذاك يصحّ فيك القول السّيّديّ: “كل من كان حيًّا وآمن بي فلن يموت إلى الأبد” (يوحنّا 11: 26)!
فإن التزمتَ معرفة ذاتك بات إقبالُك، تلقائيًّا، والحال هذه، على مسيح الرّبّ وعلى وصاياه. على هذا أوصى كاتبُ سِفر الأمثال أن “احفَظْ وصاياي فتحيا” (الأمثال 7: 2)؛ وختم كاتبُ سِفر الجامعة كلامه بالقول: “فلنسمعْ ختام الأمر كلّه: اتَّق اللهَ واحفظْ وصاياه، لأن هذا هو الإنسانُ كلُّه” (الجامعة 12: 13).
على أنّ معرفة النّفس متعذَّرة على المستكبِر. المستكبر كذوب يعيش في مستوى خيلائه. يصنع كَذِبًا ويمضي قدُمًا في تعاطي ما صنع، صونًا للصّورة الّتي رسمها عن نفسه، سواءٌ بإزاء نفسه أم بإزاء الآخرين. وأخيرًا يصدِّق ما اخترع من كذب، خلْطًا بين ما هو عليه، في واقعه، وما تشتهي نفسُه أن يكون إيّاه! لذا لا معرفة للنّفس ممكنة من دون تواضع قلب. الحقيقة والكبرياء ضدّان! فقط مَن اتّضع تاب. مَن يرفض أن يعترف بأنه خطئ، لا بل يبرِّر نفسه، أبدًا، ويحسب خطيئته أمرًا عاديًّا أو مقبولاً أو، حتّى، ممدوحًا، فكيف يتوب عنها؟! وإن لم يتب عنها فكيف يبلغ الحقيقة؟ كبرياؤه، إذ ذاك، تزيِّن له أنّ الخطيئة حقّ! إحساسه بالخطيئة، إذ ذاك، يموت، ومن ثمّ إحساسُه بالحقيقة! الاتّضاع يستدعي التّوبة، والتّوبة تعزِّز الاتّضاع! وإلاّ تقتصر الحقيقة على الكلام الأجوف؛ فيمسي كلامُ الحقيقة تمويهًا لفعل الباطل! ظلمةٌ متجلبِبةٌ بالنّور، مِن ذلك الّذي سيرتُه التّمظهر بمظهر ملاك نور! كبرياءُ الإنسان، والحال هذه، هي العمق الّذي يتجلّى فيه الشّيطان بامتياز! على هذا المستوى من عمى القلب يصير الباطلُ هو الحقّ، والحقُّ، الّذي من الحقّ (أي الرّبّ يسوع)، ينتفي من الوجدان! أمّا الاتّضاع والتّوبة فيصونان ويُنميان ويَشحنان، بقوّة الرّوح، العينَ الدّاخليّة (ذهن القلب)، الّتي من طبيعة النّور، فيمسي الإنسان في حال المهيَّأ لمعرفة الله كما هو.
وحدها الحقيقة تشفي وتروي وتملأ. فلماذا يُؤْثِر الأكثرون الكذب إذًا؟
الكذب هو السِّمة الّتي طُبِعَت على كيان الإنسان بنار الخطيئة بمثابة “دمغة”. وهو مؤشِّرُ السّقوط عن الله. لا الكذب من الله ولا من الطّبيعة. الكذب دخيل على الإنسان. خِلسةً دخل إلى حياة الإنسان، عن جهل منه، فصار له بمثابة طبيعة ثانية تعتور الطّبيعة الّتي خلقه الرّبّ الإله عليها برمّتها. الكذب من إبليس. هذا هو الكذّاب وأبو الكذّاب. الكذّاب، الكثير الكذب، الّذي ليس فيه حقٌّ أبدًا. الّذي متى تكلّم بالكذب فإنّما يتكلّم ممّا له (يوحنّا 8: 44). هذا هو مَن وصفه الرّبّ يسوع المسيح بأنّه القتّالُ للنّاس منذ البدء. البدء يعني الوقت الّذي أخذ فيه إبليسُ يقتل النّاس، لا بدء الخليقة. والقتّال هو لتأكيد أنّ ما فعله إبليس شَمَل كلَّ النّاس بلا استثناء. إذ ذاك حصل ما يُعرف بالسّقوط! إذ ذاك دخل الموت. وبِمَ قتلَ إبليسُ النّاس، أو، بالأحرى، صار قتّالاً لهم؟ بالكذب!
بالكذب حصل القتل؛ وخوفًا من الموت، من ثمّ، أخذ النّاس يكذبون كما لاتّقاء الموت. اعتمدوا الكذب سيرة لهم. صار لهم لا فقط كأنّه أمرُ تَطَبُّعٍ، ولا فقط كأنّه حاجة، بل، بالأكثر، كضرورة كيانيّة مُستحدثَة للموت ادّعاءَ الحياة. تمامًا لأنّه كَذِبٌ! الكذِبُ أن الحياةَ الحقَّ موتٌ، والموتُ هو الحياةُ الحقّ! لِمَن يتمسَّك بسيرة الكذب، حقُّ الله والاتّضاعُ والتّوبةُ لا يُغري! الكذب أكثر فتنةً منه وأيسر وأكثر إثارةً، وعلى قلب الإنسان؛ ثمّ في عالم مدمِنٍ الكذبَ، تلقاه أفعَل! حقُّ الله يحتاج إلى بذل دم، إلى إفراغ ذات، والكَذِبُ لا يرغب في أن يموت، إراديًّا، عن نفسه! يظنّ أنّ له بالكذب حياة! لذا يتمظهر، في أوساط الّذين لا زالوا يتعاطون لغة حقّ الله والاتّضاع والتّوبة، بتعاطي اللّغة عينها وبتقوى حيث ينبغي! لا فرق لديه، لعمى قلبه من الكذب، بين الكلام ومضمون الكلام! وقد يبلغ من الاستكبار حدًّا يتنطّح معه بالبرّ، ويَفْجُر في وجه الحقّ بوقاحة كما عن غيرة على الحقّ حتّى إسالة “دموع التّماسيح” من المُقلتين، إثباتًا لكذب استعاض به عن الحقّ الحلال، ما يُقنع “السُّذَّج” ويُضلِّل البسطاء ويُحيل “الجسدانيِّين النّفسانيِّين” لديه فريسة سهلة يتمجّد بأجسادها، وبالأحرى، بجثامينها!
من هنا التّأكيد في الشّريعة الموسويّة: “لا تكذبوا… لا تحلفوا باسمي للكذب فتدنِّس اسم إلهك. أنا الرّبّ” (لاويِّين 19: 11 – 12). ومن هنا تأكيد الرّسول المصطفى بولس: “لا تكذبوا بعضكم على بعض، إذ خلعتم الإنسان العتيق مع أعماله ولبستم الجديد الّذي يتجدّد للمعرفة حسب صورة خالقه” (كولوسي 3: 9 – 10). وأيضًا “اطّرحوا عنكم الكذب، وتكلّموا بالصّدق كلّ واحد مع قريبه، لأنّنا بعضنا أعضاء البعض… لا تعطوا إبليس مكانًا” (أفسس 4: 25، 27)!
إذًا، الإنسان يكذب لأنّه يستكبر، ولأنّه لا يشاء أن يمَّحي، ولا يريد أن يحمل صليب المسيح، ولا يُشبعه أن يتوب… بكلمة، لأنّه لا يخاف الله! والإنسان يصدِّق الكذب متى كان في نفسه، في العمق، ميلٌ عن الحقّ. لا يقبل محبّة الحقّ ولا يُصدِّق الحقّ بل يُسَرُّ بالإثم ولو تظاهر بالعكس، أو تكلّم بالحقّ خلافًا للباطل الّذي فيه! الكذب يعلِّم الرّياء، والرّياء يصدِّق ذاته ويتّهم الحقّ بالرّياء! متى ازدوج الحقّ بالباطل، في النّفس، وما عمل الإنسان على تنقية نفسه، فإنّ الحقّ فيه يَضمر والباطل يزدهر إلى أن يموت الحقّ والإحساس بالحقّ ويسود الباطل! إمّا أن يطرد الحقُّ الباطلَ إلى خارج، وإمّا أن يخنق الباطلُ الحقّ! ثمّة معركة لا بدّ للمؤمن من أن يخوضها! لا خلطة للنّور مع الظّلمة. إمّا يُبدِّد النّورُ الظّلمة، أو تطفئ الظّلمة النّور! فمتى انطفأ النّور في قلب الإنسان، فإنّ الله، إذ ذاك، يرسل لفعلة الظّلمة “عمل الضّلال حتّى يصدِّقوا الكذب” (2 تسالونيكي 2: 11)!
أنّى يكن الأمر، “فلا يمكن إلاّ أن تأتي العثرات. ولكن ويلٌ للّذي تأتي بواسطته. خير له لو طُوِّق عنقه بحجر رحى وطُرح في البحر من أن يُعثِر أحد هؤلاء الصّغار” (لوقا 17: 1 – 2)!
على أنّ استقامة القلب، واستقامة القلب، وحدها، تميِّز روح الكذب؛ ترصدها وتفضحها! تحسّ بها، في الدّاخل، حركة غريبة مشبوهة!