رُهاب الأقلية انتحار جماعي

mjoa Wednesday April 3, 2013 94

“لا يتميّز المسيحيون عن سائر الناس، لا بالبلد ولا باللغة ولا باللباس. لا يقطنون مدناً خاصةً بهم، ولا يستخدمون لغة محلية غير عادية. ليس في نمط عيشهم أي تمييز… وهم يتوزّعون في المدن اليونانية أو البربرية وفق ما قُسم لكلّ منهم. وهم يتكيّفون والعادات المحلية المرعية في ما يخصّ الملبس والمأكل وأسلوب المعيشة، فيما هم يجاهرون بالشرائع الغريبة وغير المألوفة حقاً الخاصة بملكوتهم الروحي، ويقيمون كل في وطنه، ولكن كغرباء مستوطنين ويؤدّون واجباتهم كاملة كمواطنين، ويتحمّلون كل الأعباء كغرباء. فكل أرض غريبة هي بمثابة وطن لهم، وكل وطن هو بمثابة أرض غريبة”.


هذا النص مستلّ من “الرسالة إلى ديوغنيطس”، وهي رسالة دوّنها، في نهاية القرن الثاني للميلاد، كاتب مسيحي مجهول الهوية، وجهها إلى شخص وثني يحتلّ موقعاً مهماً في الإمبراطورية الرومانية اسمه ديوغنيطس طلب من كاتب الرسالة تعريفاً بالمسيحية والمسيحيين، وبخاصّة تعريفه بإله المسيحيين، وكيف يجلّه المسيحيون؟ ولماذا لا يكترثون للموت في سبيل إيمانهم؟ ويفيدنا أسلوب الرسالة بأنّ كاتبها كان مثقفاً كبيراً وضالعًا باللغة اليونانية والبلاغة والخطابة، بالإضافة إلى اللاهوت.

كانت مسألة رفض تقديم الذبائح للآلهة الرومانية هي الدافع للاستشهاد. فكانت الدولة تسهر على تكريمها لأنها تعتبر أنّ تلك الآلهة هي حامية الإمبراطورية وحصنها ضدّ أعدائها. لذلك لم يكن تكريم الآلهة الوثنية واجباً دينياً فحسب، بل كان واجباً وطنياً أيضاً. من هنا، اعتبر عدم تقديم الذبائح للأوثان خيانة للدولة ولمبادئها، وتمردّاً على الإمبراطورية، واعتداءً على الجلالة. كان يكفي، إذاً، أن يكون المرء مسيحياً ليستوجب العقاب، والحكم بالموت في أغلب الأحيان.

في وصفه الشهداء وشجاعتهم يقول كاتب الرسالة إلى ديوغنيطس: “ألا ترى كيف يرمون بالمسيحيين للوحوش كي يرغموهم على نكران السيّد (المسيح) فلا ينغلبون؟ ألا ترى أنّه كلما كثر الشهداء زاد عدد المسيحيين؟ لسوف تحبّ وتعجب ممّن يتعذّبون لأنّهم لا يريدون أن ينكروا الله. عندما تعلم ما هي الحياة الحقيقية، تحتقر ما نسمّيه، على هذه الأرض، الموت”. لم يكن الموت ليخيف المسيحيين من أن ينقص عددهم، لذلك واجهوه بإقدام وببسالة، وكان عددهم يزداد، على الرغم من الاضطهادات، بسبب قناعة الناس بصدق إيمانهم ورجائهم بإلههم الفادي. صحيح أن “الرسالة إلى ديوغنيطس” عمرها ثمانية عشر قرناً، لكنها تخاطب أيضاً مسيحيّي هذه الأيّام، كما خاطبت آباءهم وأجدادهم عبر التاريخ. فالمسيحيون الأوّلون، وفق الرسالة، عاشوا وفق مقتضيات الإنجيل، وسلكوا دروب الربّ غير خائفين من الاستشهاد وتقديم ذواتهم قرابين في سبيل الإيمان. وفي الظروف التي تمرّ بها بلادنا هم مدعوّون إلى حفظ الأمانة والشهادة حيث شاء الله أن يولدوا ويكونوا.

في أوج أزمنة الضيق والاضطهادات، لم ينكفئ المسيحيّون، ولم يعزلوا أنفسهم في غيتوات منغلقة على ذاتها ومنقطعة عن محيطها وبيئتها، بل انخرطوا في قضايا أوطانهم، وتقاسموا هموم مواطنيهم وهواجسهم. أدّوا واجباتهم تجاه مجتمعاتهم، ولم يطالبوا بحق لهم سوى الحق بوجودهم وبممارسة قناعاتهم الإيمانية، وبالاعتراف بحقّ ديانتهم بالوجود إلى جانب ديانات الإمبراطورية المعترف بها. ومع كونهم أقلية عددية رفضوا التصرّف إلا بكونهم مواطنين كاملين. وما الشعور الأقلويّ والانكفاء إلى الهوية الطائفية والانعزال عن الشركاء بالمواطنة سوى سمّ زعاف وانتحار جماعيّ.

 

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share