الوقت آت، ونحن على يقين، من خبرة أمس وما قبل أمس، أنّ حقيقيّة قيامة الرّبّ يسوع المسيح قد وافتنا ولا يمكن إلاّ أن توافينا بعد زمن أو زمنين. لا شكّ في ذلك، ولا خوف علينا من عدم حدوث ذلك! صوتك، أللّهمّ، يتردّد، أبدًا: “إنّ عندكم الآن حزنًا، ولكنّي سأراكم أيضًا فتفرح قلوبكم…” (يوحنّا 16: 22). “ها هو يسبقكم إلى الجليل. هناك ترونه” (متّى 28: 7). فلمّا رأوه باتوا “غير مصدِّقين من الفرح” (لوقا 24: 41)!
ولكنْ، لا بدّ لنا أن نساهم الصّليب أوّلاً! “… كانت ظلمة على كلّ الأرض… إلهي إلهي لماذا تركتني؟” (متّى 27: 45، 46).
هوذا نحن في الصّوم الكبير، واليوم أحد الصّليب. متروكون، مشلوحون، مشبوحون على صليب “التّخلّي المبارك”، والشّيطان يكدّنا بخبث وحيَل ونفاق! فقط علينا أن نقتدي بالسّيّد حفظًا للأمانة. “وكان مع الوحوش”؛ ولكنْ، لمّا انتهت الأربعون، “صارت الملائكة تخدمه” (مرقص 1: 13)!
الزّمن زمن غربلة. “سمعان، سمعان، هوذا الشّيطان طلبكم، لكي يغربلكم كالحنطة” (لوقا 22: 31)!
أتكلَّم بما أعرف وأُفضي بما أُعاين. هذا افتقاد يمين العليّ! “كلّنا كغنم ضللنا. مِلنا كلُّ واحد إلى طريقه” (إشعياء 53: 6)، لذا أسلمنا السّيّد إلى الوجع. ليس غير الوجع، بعدُ، يمكن أن يستردّنا! هذا كلّه حصل لنا بسبب خطايانا! إلى الوراء سِرتم، لذا مللتُ النّدامة، قال السّيّد (إرميا 15: 6)! هذه صفعة حتّى نستفيق! القمح سوَّس ولا بدّ من تشميسه وتهوئته وغربلته! كلّ نفس أمّارة بالسّوء وتسترسل! مخافة الله لم تعد تَردع إلاّ القلّة بين القلّة! باتت النّفوس كزانية وقحة العين! تصنع الإثم علنًا ولا تبالي! تغضّ الطّرْف عن الحقّ وتفاخر ببرٍّ ليس لها، كأنّها من أهل البيت!
ها الآن تفجّرت الآثام! شيطان يحارب شيطانًا لهلاك البشر! نسلك كنفسانيّين لا روح لهم (يهوذا 19). نعتصم بحكمة، ولكنْ مُرَّةٍ، لذا نتحزّب في قلوبنا ونكذب على الحقّ. ليست هذه حكمة من فوق، بل أرضيّة نفسانيّة شيطانيّة هي، طالما ناتجها التّشويش وكلّ أمر رديء. أما قرأتم يعقوب الرّسول ماذا قال؟ “الحكمة الّتي من فوق هي أوّلاً طاهرة، ثمّ مسالمة، مترفِّقة، مذعنة، مملوءة رحمة وأثمارًا صالحة، عديمة الرّيب والرّياء” (3: 17)! أي برٍّ ينطبع في نفس مُحبّةٍ للتّجريح والنّقمة والفضيحة والتّناهش والانتقام؟! “إذا كنتم تنهشون وتأكلون بعضكم بعضًا، فانظروا لئلاّ تُفنوا بعضكم بعضًا” (غلاطية 5: 15)! إنّما “ثمر البرّ يُزرَع في السّلام من الّذين يفعلون السّلام” (يعقوب 3: 18)!
“مَن كان منكم بلا خطيئة فليرمها أوّلاً بحجر”! ولكنْ، “لا تخطئ أيضًا، لئلاّ يكون لك أشرّ” (يوحنّا 5: 14)!
الجسد كلّه تقيَّح! “كلّ الرّأس مريض، وكلّ القلب سقيم. من أسفل القدم إلى الرّأس ليس فيه صحّة” (إشعياء 1: 5 – 6)!
علامَ نبحث أبدًا عن كبش محرقة، عن عنزة لعزازيل (شيطان البرّيّة)، كما لنبرِّر ذواتنا، لنُفرغ على رأسها خطايانا؟! ما بال هذا الشّعب لا زال يصرخ، حتّى بعد مسيح الرّبّ، بفم قيافا: “خير لنا أن يموت إنسان واحد عن الشّعب ولا تهلك الأمّة كلّها” (يوحنّا 11: 50)؟! أما آن الأوان لكلّ واحد أن يموت عن نفسه؟! حاشا أن نتغاضى، كما يقول قوم جاهلون، عن خطيئة أحدٍ بحجّة أنّ كثيرين خطئوا، بل نخوض حربًا لا هوادة فيها ضدّ الخطيئة، في ذواتنا والإخوة، سواء بسواء، حتّى لا يبقى لإبليس مكان فينا! فكما قيل: “اغتسلوا. تنقّوا. اعزلوا شرّ أفعالكم من أمام عينيّ” (إشعياء 1: 16)، قيل أيضًا: “احملوا بعضكم أثقال بعض، وهكذا تمّموا ناموس المسيح” (غلاطية 6: 2)! وأي حِمْلٍ يثقِّل علينا أكثر من الخطيئة؟! هذا أخذه السّيّد على عاتقه، “… إليّ يا ثقيلي الأحمال وأنا أُريحُكم”؛ لكنّه، في المقابل، كلّفنا بأن نحمل نيره اللّيِّن، وهو المحبّة، حتّى يكون قلب الواحد منّا إلى الواحد، وقلبُ الجميع إلى ربّهم! على هذا صدح الرّسول المصطفى بكلام النّعمة أنّه إن انسبق إنسان – وكلٌّ عرضةٌ لأن ينسبق – “فأُخذ في زلّة ما، فأصلحوا أنتم الرّوحانيّين مثل هذا بروح الوداعة، ناظرًا إلى نفسك لئلاّ تُجرَّب أنت أيضًا” (غلاطية 6: 1 – 2)! غير أن تعزلوا “الخبيث من بينكم” (1 كورنثوس 5: 13)، لأنّ “المعلّي بابَه يطلب الكَسْر” (أمثال 17: 19)!
اسمعوا ما يقول، كيف يخاطب الشّعب؟! “أنتم الرّوحانيّين”! كأنّ صفة “الرّوحانيّة” تحصيل حاصل! واحسرتاه! أي روحانيّة بقيت لنا؟! كلام أجوف، فكر مستكبر، سيرة دهريّة، طقوس مفخّمة مُمَسرحة، كلٌّ يطلب ما لنفسه؛ وفي المقدّمة والمؤخّرة، وإلى اليمين وإلى اليسار ادّعاءات وادّعاءات وادّعاءات!!! تشكو، يا رسول الله المصطفى، أنّ ديماس تركك فيما كنت تُسكَب سكيبًا، ووقت انحلالك قد حضر، إذ أحبّ العالم؟! ربّك سبق أن دعا بإرميا السّموات أن تبهت وتقشعرّ وتتحيّر، لمّا عبَّر أنّ شعبه تركه، هو ينبوع المياه الحيّة، لينقر لنفسه آبارًا، أبارًا مشقّقة لا تضبط ماء (إرميا 2: 12 – 13)! ومعلّمك الّذي عاينتَ، في الطّريق إلى دمشق، كيف عامَلَتْه خاصّتُه، تلاميذُه الّذين اختارهم بنفسه؟! قال له بطرس، ويسوع على مدّة يد من الصّليب: “ولو اضطُررتُ أن أموت معك لا أُنكرك!” (متّى 26: 35) ولم يقل ذلك لوحده، بل “هكذا قال أيضًا جميع التّلاميذ”! فلمّا حضرت السّاعة “تركه الجميع وهربوا” (مرقس 14: 50)! واليوم، أحالُنا خيرٌ من ذي قبل؟! البشريّة كلّها تذهب وتتركك وحيدًا، يا معلّم! سمعان بكى بكاء مرًّا؟ هذا لا يكفي! “يا ليت رأسي ماء، وعينيّ ينبوع دموع، فأبكي نهارًا وليلاً قتلى بنت شعبي” (إرمياء 9: 1)! والرّبّ الإله هكذا تكلّم: “يمدّون ألسنتهم كقسيِّهم للكذب. لا للحقّ قووا في الأرض. لأنّهم خرجوا من شرّ إلى شرّ، وإيّاي لم يعرفوا، يقول الرّبّ” (إرميا 9: 3)!
يسوع باق على الصّليب معلَّقًا وحيدًا، فيما “أحبّته” يتآمرون الواحد على الآخر في مَن يريد أن يجلس إلى يمينه وعن يساره في ملكوته! بيتي بيت صلاة يُدعى وأنتم جعلتموه مغارة لصوص!
جيّد، في ساعات الحقّ، أن يجعل أحدنا في التّراب فمه، لعلّه يوجد رجاء (مراثي 3: 29)! الكلام، في بابل، لم يعد له مكان! ليس مَن يسمع! وإن سمع لا يفهم! وإن فَهِم لا يقبل! جيِّد أن ينتظر الإنسان ويتوقّع بصمت خلاص الرّبّ!
لم يعد لكلّ منّا نصيب، في زمن الضّلال، غير السّكوت والدّمع والصّوم والصّلاة، وأن لا أزيح عينيّ عن خطيئتي في كلّ حين! إن لم أتُب كيف أصطلح، وإن لم أصطلح كيف أُصلِح سواي؟! كيف أحِبُّ كمَن أحبَّني؟! كيف أَرحم كمَن رحمني؟!
إنّه لمن إحسانات الرّبّ أنّنا لم نَفْنَ لأنّ مراحمه لا تزول. هي جديدة في كلّ صباح! أللّهمّ بادر إلى معونتي! الإخوة أوّلاً، عساني أُكفِّر عن بعض خطيئتي! لم أُحبب، بعدُ، لأنّي لم أتب! توِّبني، أللّهمّ، فأتُبْ إليك!
لا لأجل برّنا أعنّا، لأنّه ليس أحد منّا بارًّا، بل لأنّك أنت البارّ! أحصنا في عداد قطيعك! أعطنا أن نعرف أنّنا غير مستأهلين! شبعنا عارًا، يا معلّم! لكنّ كنيستك، أنت أقمتها فيك إلى الأبد، فلا تغادرنا لكثرة زلاّتنا! خير لي أن أكون صعلوكًا في بيت إلهي من أن أسكن في مساكن الخطأة!
الحمد لله أنّ نهاية الأمر كلّه “أنّ السّيّد لا يرفض إلى الأبد. فإنّه ولو أَحزنَ فإنّه يرحم حسب كثرة مراحمه. لأنّه لا يُذلّ من قلبه، ولا يُحْزِن بني الإنسان” (مراثي 3: 31 – 33)!
قمْ يا الله واحكم في الأرض لأنّك أنت ترث جميع الأمم!
… وتطلّعتُ فرأيت حمامة في مقلتيها دمعتان ساكنتان، فقلت: “كفى”؛ وسمعتُ: “بهاتين تغلب”! تمجَّد العليّ! ما أعظم مراحمك يا الله!