عندما شاع خبر انتخاب البابا فرانشيسكو، بدأت الأخبار تتواتر عن صفاته ومواهبه. وكانت “محبّة الفقراء” في رأس ما يتميّز به هذا الحبر الجليل. وبدا كأنّ هذه الصفة نادرة، إلى حدّ تصويرها بأنها استثناء للقاعدة، وليست صفة واجبة ينبغي أن يتحلّى بها كل مؤمن بعامة، وكل مسؤول كنسي بخاصة.
باتت “محبّة الفقراء” تستدعي الدهشة والاستغراب، بعدما كانت شرطاً ضرورياً لا يصحّ بدونها أن يسمّى المرء مسيحياً، أو مؤمناً بالله إذا شئنا التعميم. باتت غير موجودة إلا في سير الأنبياء والرسل والقدّيسين والأبرار، باتت محصورة بهم ولا تعني كل المؤمنين. لذلك، صار اكتشافاً عظيماً أن نجد في عالمنا مَن يكرّس نفسه في خدمة الفقراء.
يتناول القدّيس يعقوب في رسالته الجامعة مسألة ارتباط الإيمان بالأعمال، فلا يكون هذا الإيمان كاملاً من دون عمل الرحمة ومحبّة الفقير، فيقول: “ماذا ينفع أن يقول أحد أنّه يؤمن، إن لم يعمل؟ أبوسع الإيمان أن يخلّصه؟ فإن كان فيكم أخ عريان أو أخت عريانة ينقصهما قوت يومهما، وقال لهما أحدكم: اذهبا بسلام فاستدفئا واشبعا، ولم تعطوهما ما يحتاج إليه الجسد، فماذا ينفع قولكم؟ وكذلك الإيمان، فإن لم يقترن بالأعمال كان ميتاً في ذاته”.
أمّا القدّيس باسيليوس الكبير (+379) رئيس أساقفة قيصرية كبادوكية، فقد اشتهر، بالإضافة إلى كونه لاهوتياً ومعلّماً كبيراً، بإنشائه مؤسسات للرعاية الاجتماعية، فبنى مستشفى وداراً للأيتام، ومأوى للعجزة… تستقبل القاصدين وتعالجهم وتخدمهم مجاناً. لم يكن الإنجيل لدى هؤلاء، باسيليوس وأمثاله في التاريخ، وعظاً وتبشيراً كلامياً وحسب، بل سلوكاً يومياً والتزاماً كاملاً.
ماذا حلّ لدى المؤسسات الدينية محل “محبّة الفقراء”؟ ماذا تعمل الكنائس في خضمّ ما نشهده في بلادنا العربية، وفي لبنان، لممارسة هذه الوصيّة الإلهية؟ فبدلاً من السعي إلى إقرار قوانين تنصف الفقراء، كالضمان الاجتماعي وضمان الشيخوخة، وبدلاً من استثمار الأوقاف لمساعدة الشباب على عدم الهجرة، أو لمساعدة الفقراء على تعليم أبنائهم، تذهب المؤسسات الدينية إلى المطالبة بحقوق الطوائف وأبنائها في الوظائف العليا للدولة، والسعي إلى قانون للانتخابات لا يقل طائفيّة عن القانون الحالي، وبشؤون طائفية شتّى.
حلّت محبة الأغنياء ووجهاء الطائفة مكان محبة الفقراء، وبات حقّ الفقير مهدوراً في سبيل مجد الطائفة والطائفيّين. باتت محبة قيصر وحاشيته أقوى من محبّة الله، وقد ساوى المسيح نفسه بالفقراء عندما قال: “كنت جائعاً فأطعمتموني، وعطشاناً فسقيتموني”…
لا يكفي أن تقول المؤسسات الدينيّة كلاماً عن المحبة والشهادة من دون تأمين الحدّ الأدنى لها للعيش بكرامة في ديارها. وقد حان الوقت لتدرك هذه المؤسسات أن المحبة أكثر من المطالبة بحقوق الطوائف هي التي تسهم في بقاء المسيحيين في بلادنا.
هل باسيليوس ومَن ماثله حالاً عامّة أم حالاً استثنائية عبرت في التاريخ ولن تعود؟ الجواب عن هذا السؤال منوط بسلوكنا وبسلوك المؤسّسات الدينيّة. “محبّة الفقراء” هي أعظم أعجوبة يمكن أي إنسان أن يجترحها، وهذا مستطاع عند كل إنسان.