«لا تتّكلوا على الرؤساء ولا على بني البشر اذ ليس عندهم خلاص» (مزامير 146: 3). الاتكال ان تجعل الآخر وكيلا لك عند الله أو عضدا لك عنده لأنك تعرف نفسك فقيرًا وتخشى عجزك عن رؤية الله وان يكون هو وحده متكأك. أنت تسعى في وحدتك إلى ثنائيّة وهي غير كافية لتتجاوز بها عزلتك. الثنائيّة هي الوجه إلى الوجه واذا كان كل وجه هشّا تكون رميت نفسك في هشاشتين.
تكون قد ظننت نفسك اكتملت في الثاني ولكنه بسبب مما يعوزه من الوجود لا يوصلك إلى اكتمال كيانك. يسندك فقط وقد لا يأتي سنده عظيمًا فتنهاران معًا. نقصانان نحن لا يصيران وحدة. فاما اذا اتحدت بالله بمعرفة محبوبيتك عنده تغدو واحدا فيه. أنت بالمحبة لا تضيف على الله شيئا. تكتمل أنت به. تكتمل نسبيا قبل رؤية الملكوت. ولكن هذه الرؤية هنا سابقة للوجود الكامل عند رؤيتك الله بالموت. عند ذاك، تكون قد أكملت سعيك.
كلّ كمال على الأرض فقط سعي إلى ان يكلّلك الربّ في اليوم الأخير. لذلك لا نبلغ الرؤية كاملة لا قبل الموت ولا بعده اذ لا يسعك ان تكمل الا مع القديسين اذا اجتمعوا إلى ربّهم في اليوم الأخير. الخلاص هو للجميع مجتمعين. قبل ذلك نحن في السعي.
أنت تكمل بالضعفاء اذا احببتهم فانتشلتهم. كل البشريّة مجموعة مهمشة ترى إلى مجدها فقط في اليوم الأخير. وأنت في هذه المجموعة عندما تنضمّ اليها بالحب. أنت منها واليها في الرجاء اعني رجاءك إلى الله. ليست كلمة واحدة في الكتاب تعدك بالمحبوبيّة اذا أنت أحببت. الجواب عن حبك ما قال عنه الكتاب ان له مردودا. قد يردّ إلى الحب البغض الظالم أي الذي ليست ذاتك منبعا له. اذا كنت مؤمنا كبيرا لك ان تنتظر العزلة. ولعلها تنقذك لأن لك نصيبا ان تكون حبيب الله الذي لا يترك أحدًا يموت عطشا أو يحزن بسبب من سراب.
أنا ما قلت ان دعوتك الوحيدة ان تحيد عن كلّ وجه اذ ليس فيه كامل العزاء. شرعي ان تسعى إلى إقامتك في محبوبيّتك أي ان تقيم بالحب الذي تعطى ولكنه ليس شرعيا ان تكتفي بهذا أي قد تجد نفسك منفيا إلى «صحراء الحب» كما يقول فرنسوا مورياك أي ان يحكم عليك بعض الذين ترجو محبتهم بالانعزال. حقك ان تطلب الانتباه اليك وأريد بذلك انضمام الناس إلى محبّة الله لا اليك. تصير عظيم الوجود لو سعيت إلى تلك الوحدة الصافية الإلهية التي تجمع نساكها إلى ربهم.
# # #
حزننا اذا بقينا على هشاشة بشرتنا كوننا لم نبلغ السماء. هذا في حد نفسه حزن جميل لأن التقوى هي استباق الفردوس هنا في الحب الإلهي.
المشكلة اننا لن نبلغ الملكوت هنا الا مع الأطهار عنيت بهم الذين يحبوننا بالرب بلا شرط فينا. وقوّة سعينا في الرؤية التي اليها نتوق ودربنا التوق حتى نموت. والأطهار قلّة عزيزة وعنيت بهم الذين يطوقونك بالحب الإلهي الذي لا يستند إلى أي شرط فيك ولكنه يأتيك من مجانية المحبة الأخوية التي هي انعكاس للمحبة الإلهية المجانية بطبيعتها.
يلفتني في الانجيل ان الرب يسوع عندما تكلّم عن المحبة قال انك تعطيها وما وعدك مرة انك تعطاها. هو كان يعرف التعزيات البشريّة التي كانت له من الجماعة التي احتاط بها ولا سيما من بطرس ويوحنا ويعقوب ولكنه ما أراد ان نتكئ على التعزيات. كل تعليمه من هذه الزاوية انك تعطي بلا حساب أي بلا توقع لمردود. أنت تتكون من المحبة التي تعطيها أمل الاخذ لأنك موجود فقط اذا أعطيت واذا أعطيت لا يعني انهم اخذوا. لذلك قال: «بدّد اعطى المساكين فيدوم برّه إلى الأبد» (مزامير 112: 9). المحبة ليس فيها شرط في الآخر. أنت تعطي بلا حساب أي لا تتوقع المبادلة ولا تتوقع الوفاء. قلبك هو الذي يعطي اذا انفتح للعطاء وليس في أقوال الكتاب ان قلبك مفتوح لتأخذ. قد يبادلونك العاطفة واذا انزعجوا منك أو يئسوا أو جافوك بسبب ما في أنفسهم من جفاء تبقى مصرا على العطاء لأنك بهم تعطي ربك وتنتظر اليوم وغدا وحسبك ان تعايشه لأنه هو وحده العطاء.
والرد على هذا القول أعرفه اذ قد يقال انك يا فلان تطلب الصحراء الكاملة في قلوبنا. أنا لا أطلب الصحراء الكاملة. أنا أراها تحققت في القديسين وهم قد أعطوا مجانا لأنهم كانوا يرون إلى وجه الله على كل وجه وإلى وجهه هذا المرتسم أعطوا وأبوا ان ينظروا إلى القباحة وتروّضوا على انّ كل وجه بشريّ كامل الجمال اذا أنت قرأت عليه بهاء المسيح.
# # #
كلّ قلب بشري معرّض ان يصبح وكرًا للأفاعي كما يقول فرنسوا مورياك. أنت لا تحب الأفاعي ولكن القلب البشري الذي يبقى على صورة الله ولو حوى الأفاعي. تعليمنا ان صورة الله المشوّهة في كلّ منّا لا يزول عنها الحب الإلهي الذي يحضنها. واذا أنت بقيت على الرجاء فهو رجاء إلى الله الذي ينزل إلى النفس لأنه يحبّها وليس لأن فيها جمالات باهرة اذ لنا ان نتروّض على هذا الأمل الصعب ان كل نفس ذائقة الموت حبيبة الله إلى ان يتوفاها.
عليك أنت ان تتربى على ان ربّك يحبّ كلّ نفس. وما من شك انه يؤدّبها لكونه يحبّها على الدوام. عليك ان تحب كلّ نفس ولو سقطت وربما كان عليك ان تزداد لها حبا اذا امعنت السقوط.
لعل صعوبتنا في الوجود ان كنا من المؤمنين ان نرى السقوط دائما فينا وفي الناس. ولكنا نكون قد بلغنا قمة السذاجة لو احسسنا ان هذا الوجود فردوسي. الفردوس تسكنه نفوس من بلغوا الجهاد الأعظم أي جهاد النفس، الذين عرفوا ان النفس مسكن الله دون بهجة هذا العالم.
لعل ذرورة الجهاد الا ترى نفسك شيئا وان ترى الآخرين معك اذا احببتهم أي ان تروا أنفسكم أحباء الله. وليس عليك ان تحسب محبة الله لأحد. المهم ان تؤمن بها لأننا بها نحيا. وأنت أمام المحبة الإلهية فقير اليها. وهي التي توجدك وتربيك على ذاتها.
اما اذا ظننت انك صرت شيئا فتخسر كل شيء. واذا بطل ايمانك بأن النعمة تحييك وتغفر لك خطاياك تصبح عدما أو شبه عدم. ليس عليك ان تفهم كيف يستخدمك الرب لمجده. أنت معطى وهو يستخدمك لمجده كما يشاء. «انما الدين عند الله الإسلام» بعميق ما في هذه الكلمة من معنى. تعال واسبح في بحر الله فيعلمك… كل شيء ويستخدمك لمجده كما يريد.
هو يرى علاقتك بمجده وأنت لا تعلم. قال المخلّص لك ولأترابك: «تعالوا إليّ أيّها المتعبون والثقيلو الأحمال وأنا أريحكم». لا تخشَ اذا العبء الذي ألقي عليك. قد تقع على الطريق كما وقع الذي حمل صليبه إلى الجلجلة. لا بدّ له ان يوتيك بمن يسعفك على طريق الآلام لأنه يريدك قائما معه في اليوم الثالث.