(لوقا 22: 53)
اثنان يُسلِمان عنانهما للشّيطان: إنسان يرتكب إثمًا ولا يشاء أن يتوب لأنّه لا يتّضع، وإنسان يدري بأمر الأوّل ويدينه بروح الاستكبار! الأوّل يمتطيه شيطان أسود، والثّاني يمتطيه شيطان أبيض!
الإثم واقع مفروض! كلّ نفسٍ آثمة! ليس أحد بلا خطيئة. لذا قول السّيّد هو: “كلّ خطيئة وتجديف يُغفَر للنّاس…”، حتّى لا يقع أحدٌ في اليأس وحتّى لا يستسلم أحدٌ لخطيئته بالكامل. لكنّه عقّب بالقول: “وأمّا التّجديف على الرّوح فلن يُغفَر للنّاس” (متّى 12: 31). في الإثم ضَعفٌ يذهب إلى حدّ المرض. وقد يتأتّى من جهل. لذلك، حتّى لو قال أحدٌ كلمةَ سوءٍ على ابن الإنسان، عن جهل، فسيُغفَر له؛ طبعًا إن تاب. أمّا إن بلغ الاستكبار بالإنسان حدًّا يدفعه إلى الكلام بالسّوء على روح الحقّ عن مجرّد افتراء، لأنّه (أي روح الحقّ) لا يزكّي كبرياءه بل يدينُه، وهو (أي الإنسان) لا يشاء أن يتّضع ويتوب، فإنّ الإنسان يكون قد بلغ حدّ اللاّعودة في ضلاله وانحرافه! إذ ذاك، ويلٌ له لأنّه لن يُغفَر له لا في هذا العالم ولا في الآتي (متّى 12: 32)!
أمّا بعد، فالمهمّ للأثيم – وكلّنا آثم – ألاّ يستكبر، أن يتوب! لا يسمح الله للأثيم أن يأثم إلاّ لأنّه يشاء له أن يعرف نفسه، أن يتوب، أن يتنقّى، أن يتقدّس. في النّفس، كلّ نفسٍ، زغلٌ كثير! الزّغل يجتمع في بؤرِ إثم. الخطايا مترابطة. مَن يتصدّى لإحداها لا يمكنه إلاّ أن يتصدّى لكلّ ما يمتّ إليها بصلة. في الحرب، تواجه جيشًا، ولكنْ عليك أن تواجه عملاءه أيضًا، وإلاّ لا تنتفع شيئًا. الخطيئة، إذا تصلّب استكبارُ صاحبها، يصيبُها التّكلّس. لا تعود النّفس، إذ ذاك، ممكنٌ ليُّها. ليونتها تنتفي. تحتاج، إذ ذاك، إلى كسر! وإن لم يكن كسرُها متيسِّرًا لشدّة قسوتها تصبح قريبة من التّجديف على روح الله! لذا لِنتُب سريعًا! اليوم، قبل الغد! غدًا تصبح التّوبة أصعب! وبعد ذلك الحسّ بالتّوبة يَضمر! وإن مات الحسّ، قليلاً قليلاً، يمسي الإنسان شيطانًا من شيطان! مِن أب هو إبليس، وأعمال أبيه يعمل! لذا لا نؤجِّلنّ التّوبة إلى الغد! مجد باطل، عُجْبٌ، حبّ ظهور… لا همّ!
لنكن مستعدين لأن نتخلّى عن كلّ شيء لأنّه سِقْط، ولكنْ لا نخسرنّ فرصة التّوبة! لا أثمن من التّوبة! كلّ شيء غير التّوبة، في مثل هذه الحال، وهمٌ وتعظّم معيشة، قيدٌ إيهاميّ، وعدٌ باطل، كَذِبٌ! “ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كلّه وخسر نفسه؟!” نتوب غدًا؟! لا نعوِّلنّ على ذلك! غدًا، لن نكون في الحسّ الّذي يمكن أن يعتورنا اليوم! غدًا يوم آخر تمامًا! غدًا قد لا يأتي أبدًا! لذا التّوبة حجر الزّاوية اليوم، الآن! “خطئت إلى السّماء وأمامك ولست مستحقًّا أن أُدعى لك، بعدُ، ابنًا! اجعلني كأحد أجرائك!” فيجعلك ابنًا كان ميتًا فعاش وكان ضالاًّ فوُجد! يذبح لك العجل المسمَّن! ويفرح ويفرح معه كلّ أهل بيته! حتّى مجرّد عتاب بسيط لا يوجِّه لك! يكفيه أنّك عرفت نفسك وعُدْتَ! لا نفسحنّ في المجال للشّيطان أن يقيِّدنا بما يقوله فلان أو فلان، أو بما يمكن أن نخسره من امتيازات في هذا الدّهر! كلّه تباب في تباب! الحاجة إلى واحد أوحد! المهمّ الأهمّ وجه الله! وجهك يا ربّ، أنا ألتمس! ناظرين مجد الرّبّ بوجه مكشوف (2 كورنثوس)!
والمهمّ، في آن معًا، ألاّ يدين أحدُنا الآخر! في الإدانة، دائمًا، استكبار وتبرير ذات. احملوا بعضكم أثقال بعض. تقول إنّك لا تطلب غير الحقّ؟ تقول إنّك غيور على ما لله؟ تقول إنّك غيور على شعب الله؟ هذا حسن كلّه. فقط انتبه إلى الرّوح الّذي يتغلغل في ثنايا ما تدّعيه. لا أقول، إنّ ما تدّعيه كذب! معاذ الله! ولكنْ في النّفس خبايا وخفايا كثيرًا ما لا نعيها، عليك سبر غورها أوّلاً حتّى لا توجَد مدافعًا عن الحقّ، زورًا، بروح الباطل وأنت لا تدري! ارصد في نفسك روحَ التّعظّم، روحَ التّعالي، روحَ التّشفّي، روح الانتقام، روح الشّماتة، روح المتعة بسقوط الآخرين! “القلب أخدع من كلّ شيء وهو نجيسٌ مَن يعرفه” (إرميا 17: 9)! لعلّك تسعى لأن تظهر في عين نفسك والآخرين أنّك أبرّ من سواك! تقول، خطاياك أنت، أيضًا، كثيرة؟! أتُراك تحسّ بوطأتها، حقًّا، في نفسك، جحيمًا؟! أتبكي؟! أتحرقك خطاياك كالنّار؟! أعارف أنت بكبرياء قلبك؟! باحتيالات نفسك؟! أخطيئتك أمامك في كلّ حين؟! أم تراك تستفظع خطايا سواك وتعقلِن خطاياك حتّى لا تعود تحسّ بها بالمرّة؟!
ليؤدبني الصّدّيق برحمة ويوبّخني… أتراك، فعلاً، برحمة تؤدِّب؟! تؤدِّب وقلبك منفطر على مَن تؤدِّب؟! تبكي، من الأعماق، مع الباكين؟! هذا، الكلام فيه لا يكفي! أصالة الحبّ تشيع جو المحبوبيّة وتلامس، فوق الكلام، الكيانَ! للقلب لغة أعمق من كلام الشّفتَين! ساعة ينعطف القلب على القلب، يجد مَن بإزائك أنّك آخذُه بلَطَفٍ! فإن كان قاسيًا يميل إلى اللّين، وإن كان على خَدَرٍ يميل إلى الصّحوِ! القلب، وإن كان نجيسًا، فإنّه في محضر الأصالة، في نهاية المطاف، قابلٌ، بعمق، لأن يصغى، لأن يرتدّ عن غيّه! لا أبلغ من القلب النّقيّ في إيصال الكلمة لمَن شرد! قلب الشّارد ممتلئ جراحًا عتيقةً ملتهبة، والحبّ الأصيل، إن امتدّ صوبه، كان إليه مرهمًا ملطِّفًا، مبرِّدًا حرقة وجع الخطيئة واستبدادها وعنادها في النّفس! لذا تلك الصّرخةُ المزموريّة: “ليؤدِّبني الصّدّيق برحمة ويوبّخني. أمّا زيت الخاطئ فلا يُدهَن به رأسي” (مزمور 140: 5)، هي، بالأحرى، صرخة الخاطئ يستغيث! يطلب ماء لأنّه عطشان فلا يُعطَينّ خلاًّ! الخطيئة لا تشفي الخطيئة! الخاطئ، أخيرًا، اتّخذه السّيّد، حمله في ذاته على الصّليب؛ حملني وإيّاك، ورفعنا بصوت الحشا إلى أبيه السّماويّ: “إلهي، إلهي انظر إليّ. لماذا تركتني؟ لماذا ابتعدت عن نصرتي وعن كلمات أنيني؟ إلهي أنا في النّهار أصرخ إليك فلا تستجيب. وفي اللّيل أيضًا دون أن أستريح” (مزمور 21: 1 – 2)!
الخروف الضّائع كثيرًا ما قسونا عليه! وله، في الدّينونة، أن يتّهمنا: “بلى، أنا خطئتُ وقسا قلبي، ولكنْ، كم تراني استجديت الرّأفة فما طالعتموني بغير قسوتكم عليّ! “اصلبه، اصلبه، دمه علينا وعلى أولادنا”، ما جعلني أقسو بالأكثر وأكرهكم بالأكثر وأقاومكم بالأكثر! شَردتُ كالابن الشّاطر، وأنا عارف بخطيئتي؛ لكنّي، في أعماقي، كنت أبحث عن صدِّيق أبكي حالي على كتفه! أنا وحش؛ خطيئتي جعلتني مفترسًا؛ لكنّ وحشتي فيما بينكم جعلتني أستوحشَ بالأكثر، وأتمسّك بوحشيّتي سيرةً إلى المنتهى إذ لم أجد مَن يرثي لحالِي!
أعطني صدِّيقًا وخذ روحًا!
أما صعد، ربّي، شرُّ نينوى أمامك، بعد؟! أرسل إلينا يونان بن أمِتّاي عسانا نرجع، كلُّ واحد، عن طريقه الرّديئة! كأنّنا نسينا مسيحك وبتنا بحاجة ليونان جديد يصرخ فينا: “بعد أربعين يومًا تنقلب نينوى”!
واحسرتاه! عدنا فملنا كلُّ واحد إلى طريقه (إشعياء 53: 6) كأنّ عبد يهوه لم يكنْ! ربّاه رحماك!