“أمّا التلاميذ الأحد عشر فذهبوا إلى الجليل، إلى الجبل حيث أمرهم يسوع. فلمّا رأوه سجدوا له، ولكنّ بعضهم شكّوا. فدنا يسوع وكلّمهم قائلاً: إنّي قد أعطيتُ كلّ سلطان في السماء وعلى الأرض. فاذهبوا الآن وتلمذوا كلّ الأمم معمّدين إيّاهم باسم الآب والابن والروح القدس. وعلّموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتُكم به. وها أنا معكم كلّ الأيّام إلى منتهى الدهر. آمين” (خاتمة إنجيل القدّيس متّى التي نقرأها في خدمة سرّ المعموديّة: ٢٨: ١٦-٢٠).
ظهر الربّ يسوع بعد قيامته من بين الأموات مرّات عدّة لتلاميذه وآخرين، وحدّثهم عن آلامه وصلبه وقيامته، وأكّد لهم أنّ كلّ هذه الأحداث قد حصلت في سبيل خلاصهم وخلاص العالم. غير أنّ وصيّته الأخيرة لهم، وفق النصّ الإنجيليّ أعلاه، فهي أن يبشّروا الناس قاطبة بقيامته، وأن يعمّدوا المؤمنين به باسم الآب والابن والروح القدّس، وأن يسهروا على تعليمهم وصايا الربّ ومقتضيات الحياة الجديدة. ووعدهم بأنّه سيكون معهم، ومعنا، إلى انقضاء الزمان حيث نحيا معه في الملكوت السماويّ حياةً ابديّة لا نهاية لها. فأن يكون الربّ معنا إلى انقضاء الزمان، فذلك يعني أنّ موتنا الجسديّ ليس نهاية حياتنا. أن يكون معنا دائمًا يعني أنّنا لن نموت أبدًا.
ما الصلة ما بين المعموديّة والقيامة؟ ما الصلة ما بين المعموديّة والحياة الأبديّة؟ كيف يمكن معموديّتنا أن تمنحنا قوّة الحياة التي لا تفنى؟ الجواب نجده لدى القدّيس بولس الرسول في رسالته التي نقرأها في خدمة سرّ المعموديّة (رومية ٦: ٣-١١)، حيث يبسط لنا لاهوت المعموديّة القائم على المشاركة في موت المسيح وقيامته: “أم تجهلون أنّنا كلّ مَن اعتمد ليسوع المسيح اعتمدنا لموته. فدُفنّا معه بالمعموديّة للموت حتّى كما أُقيم المسيح من الأموات بمجد الآب هكذا نسلك نحن أيضًا في حياة جديدة. لأنّا إن كنّا قد صرنا متّحدين معه بشبه موته نصير أيضًا بقيامته (…) فإنْ كنّا قد متنا مع المسيح نؤمن أنّنا سنحيا أيضًا معه”…
المعموديّة بطلت أن تكون مجرّد عمليّة تطهير (أو وضوء)، بل هي فعل موت وقيامة. فالمقبل على المعموديّة يغطّس بماء الجرن ثلاث مرّات باسم الآب والابن والروح القدس حتّى “يتّحد بشبه الموت المسيح”، أي أن يُدفن مع المسيح في قبره الذي يُرمز إليه بالجرن، كي يشارك في قيامته. ففي صلاة تبريك الماء يتضرّع الكاهن إلى الله ويسأله أن يجعل هذا الماء مقدّسًا بحلول الروح القدس عليه، كما قدّس مياه نهر الأردنّ، محوّلاً إيّاه إلى “ماء خلاص، ولباس لعدم الفساد، وتقديس للجسد والروح”. وهنا يجدر التنويه بأنّ الماء هو مصدر الحياة، فـ”هناك حيث يكون الماء تكون الحياة”، ولكنّ الماء أيضًا هو سبب للموت كما في الطوفان حيث لم تنجُ سوى سفينة نوح (رمز الكنيسة)، وفي عبور موسى النبيّ مع شعبه البحر الأحمر، حيث مات غرقًا جيشُ فرعون مصر.
من هنا يتّضح لنا الفارق الكبير ما بين معموديّة يوحنّا ومعموديّتنا باسم الآب والابن والروح القدس. فيوحنّا نفسه كان ينادي: “أنا أُعمّدكم بالماء لأجل التوبة، لكنّ الذي يأتي بعدي فهو أقوى منّي، وأنا لا أستحقّ أن أحلّ سير حذائه. هو سيعمّدكم بالنار والروح القدس” (متّى ٣: ١١-١٢). معموديّة يوحنّا كانت رتبة تطهير وحسب، أمّا معموديّتنا فتتمّ باسم الثالوث الأقدس، بحيث تجعل كلّ معمّد يشارك في سرّ المسيح القائم من الموت، فيقيمنا معه إذ شاركنا في موته. وكما يموت المرء مرّة واحدة، هكذا يعتمد مرّة واحدة. ولذلك نؤمن “بمعموديّة واحدة لمغفرة الخطايا” كما نقول في دستور الإيمان.
كان السائد قديمًا أن تتمّ المعموديّة يوم “سبت النور”، ومن هنا تسمية ذلك السبت بسبت النور، وليس يوم عيد الظهور الإلهيّ (عيد الغطاس كما تقول العامّة)، ذلك أنّنا نعتمد ليس لأنّ المسيح اعتمد من يوحنّا، بل لأنّ المسيح مات وقام. ولو كانت معموديّتنا تشبه معموديّة يوحنّا لما بطلت الختانة، فالربّ اختتن في اليوم الثامن، أمّا نحن فلا نختتن. فيكون عيد الفصح المجيد هو المناسبة المثلى لإجراء سرّ المعموديّة. وما زالت خدمة قدّاس سبت النور تحتفظ بآثار من هذا التقليد حيث نرتل: “أنتم الذين بالمسيح اعتمدتم، المسيح قد لبستم. هللويا”، التي نرتلها أيضًا في قدّاس عيد الفصح، ثمّ نقرأ الرسالة المختصّة بخدمة سرّ المعموديّة.
المعموديّة ليست، لدى المعمّدين، نهاية الجهاد، بل هي بدايته. إنّ الحياة الجديدة لا يمكن كسبها إلاّ بالتزام المعمّد وتصميمه بكامل حرّيّته وإرادته على السلوك يوميًّا في طريق التوبة: “إنّ إنساننا العتيق قد صُلب معه ليُبطل جسد الخطيئة كي لا نعود نُستعبد أيضًا للخطيئة؛ لأنّ الذي مات قد تبرّأ من الخطيئة” (رومية ٦: ٦-٧). عيد الفصح، عيد الحياة الجديدة، لن يكون عيدًا لنا إنْ لم ننتفع روحيًّا منه، فنعيد الحياة إلى معموديّتنا، أي موتنا وقيامتنا مع المسيح. لن يكون العيد عيدًا حقيقيّا ما لم نقُم نحن أيضًا معه.