نبقى، في المسيح، على الصّليب حتّى النَّفَس الأخير! لا ننزل من تلقاء أنفسنا. نموت إنْ نزلنا! يُنزلوننا متى اكتمل فينا التّسليم لله. “في يديك أستودع روحي”. لا، ليس الصّليب علامة الموت بل الحياة. ولا هو علامة اليأس بل الرّجاء. ولا هو مؤشِّر الحزن بل الفرح. لذا قيل: “بالصّليب أتى الفرح إلى كلّ العالم”. الصّليب جدّد وسما بالحياة الّتي سقطت من الفردوس في آدم وحوّاء القديمَين. وما جدّدها وسما بها إلاّ لأنّه بعدما كان رمزَ اللّعنة صار، بالرّبّ يسوع، له المجد، رمزَ المحبّة!
كيف لا والّذي لا تسعه السّماوات أفرغ نفسه وارتضى أن يسمِّره الإنسان على الصّليب رفضًا له. وما درى المسكينُ أنّه صَلَب حتّى الموت ذاك الّذي أحبّه حتّى التّجسّد! ومن حيث لا يدري ابنُ آدم استحال الصّليبُ عرشًا للمجد الإلهيّ! وبدل أن يبقى علامةً للموت صار قوّةً للحياة الأبديّة، بالقيامة من بين الأموات؛ وبه تجلّت محبّة الله على أكمل صورة بين النّاس! لذا، هذا الصّليب، نحن نحتضنه بكلّ جوارحنا، لا نفلته ولا نخليه حتّى نُسلِم الرّوحَ ونُسلَم به روحَ الله! نُودَع القبرَ ونُنْتَسى كما أُودِع “نَفَسُ أُنوفنا”، مسيحُ الرّبّ، فيه، ذات مرّة، وانتُسي، كأنّه مات وباد! ثمّ، في اليوم الثّالث، نقوم لديه على شبه إقامة الآب السّماويّ له! ما عَبَر السّيّد الرّبّ بذلك كلّه إلاّ ليشقّ لنا الطّريق إلى السّماء في جسده إليه! “تعالوا إليّ يا جميع المتعَبين والثّقيلي الأحمال وأنا أُريحكم”! فقط محبّة الله تريح لأنّ الرّبّ هو الرّوح!
حياتنا، في مسيح الرّبّ، تترقرق في البطن، في الجوف، في الخفية عن أكثر العيون، كما جرت في العروق اليابسة للصّليب: “هأنذا أُدْخِل… في العظام اليابسة… روحًا فتحيَون. وأضع عليكم عَصَبًا وأَكسيكم لحمًا وأَبسط عليكم جِلْدًا… فتحيَون وتعلمون أنّي أنا الرّبّ” (حزقيال 37: 5، 4، 6)! ما ترونه شيء وما هو حاصل، في الأعماق الجوفيّة، شيء آخر تمامًا! بعدما غادر مجدُ الله الإنسانَ بحيلة الحيّة، شاء الرّبّ الإله أن يستعيده إلى المجد بحيلة الصّليب! فقط، التماعاتٌ إلهيّة كانت، أبدًا، تسترقّ شقَّ التّاريخ والآفاق، لعيون تُبصر، حتّى لا يموت الوعدُ ويفنى الرّجاء! لمّا يتخلَّ الرّبُّ الإله عن خليقته لحظة واحدة! بعدما انتفض الإنسان، جهلاً، على حكمة الله بكذب الشّيطان، وصار حكماؤه حكماء في الشّرّ، انبرى الخالقُ العطوف ليأخذ الحكماءَ، في تاريخ السّقوط، بمكرهم! ما جعله إبليس فخًّا للهلاك أحاله الرّبّ الإله حشا للخلاص! والقبر الّذي شاءه عدوّ الخير محطًّا للعظام الرّميمة، جعله الرّبّ الإله أجمل من كلّ خدر ملوكيّ!
لا يحسب الأكثرون أنّهم رأوا شيئًا، لأنّهم لا يكونون قد سمعوا شيئًا! المعاينة من السّماع، كما الحياة استبانت من الطّاعة! مَن لا يصغى، عميقًا، في قرارة نفسه، ليلتقط نأمة العبور الإلهيّ في حياته، فيه ومِن حوله، لا تَخِزْه الكلمةُ، في كيانه، ليلتفت ويبصر ويحيا! “ماذا تريد أن أصنع لك؟” لماذا لم يكن يهوه، قديمًا، يُرى إلاّ من الوراء؟ لِمَ قيل: “لا يَرى أحدٌ الله ويعيش”؟ لبلادة قلب الإنسان! البلادة، بإزاء الحضرة الإلهيّة، تُحرِق صاحبَها! لم يكن اللهُ ليُرى رحمةً بالإنسان حتّى، في الحالة الّتي كان عليها، لا يموت! ما لم يَعْتَدِ المرء سماعَ ما لا يُسمع بالأذن الخارجيّة لا يمكنه أن يأتي إلى معاينة ما لا يُرى بغير عين القلب. مَن حُجب عن ألحاظ الإنسان قديمًا، بالسّقوط، أُعطي له بالإيمان، بمسيح الرّبّ، أن يراه وجهًا لوجه! كما هو! خطْفًا اعتاد الله أن يأتي وبرقًا يرتحل! مَن لا يقيم، كحبقوق، على محرسه، ليل نهار؛ مَن لا ينتظر كإبراهيم، بشغف حتّى الأرق، مَقْدَم الملائكة الثّلاثة ضيوفًا، يأتي السّيّد ويعبر به وهو نائم عنه!
حذار أن يُقبِل إليك ويُدبِر عنك وأنت ساه! كالسّارق يأتي، في نصف اللّيل! لذا اسهروا! أمرٌ آخر يشغلك؟ شيء فيك، منك، لك؟ انفضْه عنك! عينك عليه! الحاجة إلى واحد! “اخرجوا من وسْطهم واعتزلوا يقول الرّبّ. لا تمسّوا نجسًا فأقبلكم” (2 كورنثوس 6: 17). مِن وسْط أفكارك وأهوائك وهواجسك! آدَمُك الجديد “أفرغ نفسه وأخذ صورة عبد” حتّى لا يَشغلَك عنه آخر، وحتّى تأتيه، صاغرًا، بإرادتك! تخرج من ذاتك لأنّك لست، في ذاتك، سوى علامة قبرٍ فارغ، مهما زخرت حياتُك، هنا، بألوان الحياة الدّنيا. بعد السّقوط، لم تَعُد خليقة الله للفرح الحقّ بل للحزن العميم ولو عَدّ العالَمون أحزانَهم أفراحًا! لذا أَفرِغْ نفسَك ممّا تظنّ أنّه يستأهل أن تملأ ذاتك منه. بعدما شردتَ عن ربِّك، لم يعد بإمكانك أن تَلقى بديلاً عنه حيث تشتهي! تستردّه، إن شئتَ، ولكنْ حيث لا تشتهي! فراغ في فراغ! تباب في تباب! كلّ ما تحت الشّمس باطل! من هنا أنّه يأتيك مصلوبًا وأنت غارق في تعظّم المعيشة! يأتيك مصلوبًا لأنّه لا سبيل لك لأن تلقاه إلاّ إذا كنت أنت، أيضًا، مصلوبًا! يصوِّر لك، في ذاته، ما تحتاج أنت لأن تكون عليه! “لجّة تنادي لجّة”!
ليس صليبُك ما تختاره، لأنّه مُحال عليك، في أوهامك، أن تختار صليبًا، بل ما يختاره العليُّ لك، كلّ يوم. ما يبدو مرًّا لِفيك يحلو لك في حشاك! ولا يجعله العليّ على عاتقك وحسب، بل يسمِّرك عليه. يشاؤك أن تسمِّر نفسك عليه حبًّا بك! لا سبيل لك إلاّ أن تأخذ نفسك عنوة! بإرادتك! لذا، لا هَمَّ ما يأتي عليك سوى ذلك! لا تجعل ذهنك في الملهيات العابرات، بل في ما من أجله جعلك ربّك هنا أو هناك! العصفور يصنع عشًّا ليضع بيضًا ويُخرج حياة جديدة، ثمّ يَترك العشّ ويَرتحل بما أُوتي. ليس العشُّ المشتهى بل الحياة! المهمّ أن تأخذ ممّا يأتيك روحًا! ما تعبر به ليس المبتغى. أنت قاصد المدينة العلويّة؛ والمدينة كانت نعمةَ الله! عاموص كان جامع جمّيز فصار موزِّع كلمات! أنت جامعُ نِعَمٍ لِتَنعُمَ بها وتوزِّع منها لسرور المؤمنين. القدّيس مكسيموس الحرّاق الآثوسيّ، أتدري لِمَ أسموه “الحرّاق”؟ لأنّه كان يبني لنفسه كوخًا تلو الكوخ، ثمّ يتركه طعمًا لألسنة النّار بعدما يكون قد تلقّم من ألسنة النّار الإلهيّة فيه، ولمّا يشأ أن يكون له، أو أن يلهيه عن ربّه، من أمور الدّنيا، شيء آخر سواه! الإنسان شديد الميل، بقوّة السّقوط، إلى التّعلّق بالنّاس والأشياء. لِمَ ذلك؟ لأنّه، في عمق نفسه، يبحث عن بديل أو عن بدائل عن الله الّذي أضاعه!
يعبد النّاسَ ليستمدد منهم، عبثًا، أمانَ القلب، فلا يَلقى لذاته غير العبوديّة والخواء! وإذ يكتشف، في قرارة قلبه، بعد حين، أنّ الخَلْق كلّهم كُتَل أهواء، يجد نفسه كما بلا إله، وكأنّه ليس إله! كذا الأشياء نظنّها، إن شَغُفنا بها، أنّها تَمْلأنا، فلا نلبث أن نكتشف أنّها تستهلك فينا روح الحياة! ولا يبقى لنا، حيثما حططنا، غير أرضِ قبرٍ، كمغارة المكفيلة الّتي أشتراها إبراهيم، أبو المؤمنين، من بني حِثّ، ليدفن امرأته سارة فيها (تكوين 23)! النّاس والخليقة إيقونات ومركبات إلى الله أو للعثرة يكونون!
ليس هو ههنا! قد قام!
أمّا بعد، فإنّنا في القيامة نستحلي، لعزاءٍ نشتهيه من فوق، محبّةَ يوحنّا الّذي كان يسوع يحبّه، وغيرةَ بولس الّذي جعل الرّبُّ على شفتيه كلمات النّور. إذ نتسمّر على فرح القيامة، اليوم، جذلين في الرّوح، لا نسأل ربَّ المجدِ الكثيرَ، إن سألناه عودةَ المطرانَين بولس ويوحنّا لنتطيَّب، بالأكثر، بأرج القيامة فيهما، لفرح المؤمنين! آمينَ ربَّنا!