توما الرّسول، الّذي قالت فيه الأجيال المتعاقبة إنّه التّلميذ الشّاكّ، هو أوّل مَن شهد أنّ النّاهض من بين الأموات هو إيّاه ربّه وإلهه! البشريّة، بشريًّا، أعجز من أن تتخطّى حدود الشّكّ في ما لله، في كلّ حال!
لذا إذا كان قد ورد في إنجيل يوحنّا أنّ توما هو الّذي شكّ، فقد ورد في إنجيل متّى أنّ بعض التّلاميذ شكّوا؛ فيما ورد، في إنجيلَي مرقص ولوقا أنّ كلّهم شكّوا. الأناجيل الأربعة لا تقف شهاداتها عند حدود البيان التّاريخيّ، بل تتخطّاها إلى عمق الواقع الكيانيّ البشريّ. هذا هو الإنسان! توما صورة معاشر النّاس. الشّكّ توأم النّفس البشريّة في سقوطها. وتوما تاريخ ونبوءة معًا! الكلمة الإلهيّة لها، دائمًا، بُعدُها، كحدَث تاريخيّ، لكنّ ما ترمي إليه، في المدى، هو إدخال البشريّة حَدَثًا إلهيًّا يتكشّف لها في التّاريخ المعيش، سواء على صعيد الشّخص أم على صعيد الجماعة. ما كان الشّكّ ليَظهر بالحدّة الّتي ظهر عليها إلاّ لأنّ الرّبّ الإله شاء، من ناحية، أن يبيِّن لنا محدوديّة الإنسان في مقاربة الإلهيّات، مهما تفتّحت قواه الطّبيعيّة. “ما هو الإنسان؟”، قال مرنِّم المزامير. ولكي تدركوا، متى تجلَّت فيكم نعمة الله واستبان حقّه، أنّ “ذلك ليس منكم. هو عطيّة الله. ليس من أعمال كيلا يفتخر أحد…” (أفسس 2: 8 – 9)، من ناحية أخرى. على هذا، إذا كان الشّكّ من الإنسان، فاليقين الكيانيّ، “ربّي وإلهي”، هو من الله، ومنه وحده!
أن يقول التّوأم للآتي إليه والأبواب مغلقة: “ربّي وإلهي”، يكاد يبدو أنّ روح الرّبّ نطق فيه، تكلّم بلسانه، كما على غير وعي منه! هذا، في كلّ حال، أسلوب من أساليب الكشْف الإلهيّ. ينطق الله في الإنسان دونما فَهْم منه. وكيف له أن يفهم، في كلّ حال، ما يسمو على الفَهْم؟! ثمّ، بعد ذلك، متى حانت السّاعة، يفتح فيه الذّهنَ ليفهم (لوقا 24: 45)؛ أو ليذكِّره روحُ الرّبّ بكلّ ما سبق أن قاله يسوع (يوحنّا 14: 26). فقط بالرّوح القدس يفهم الإنسان ما سبق أن قيل بالرّوح القدس! وما سوى ذلك ادّعاء لا يؤول إلاّ إلى رِدّة إلى الشّكّ، ومن ثمّ إلى تعاطي الكشف الإلهيّ كأنّه لم يكن، أو كأنّه قولة بشريّة تخمينيّة في ما هو لله! هذه، في كلّ حال، علّة “المتعقلنين”، الّذين لا يرتاحون إلى ما يُقال إنّه كَشْف من فوق، ما لم “يُخضعوه” لتقييم العقل، ويحوِّلوه إلى مقولات فكريّة قابلة للأخذ والرّدّ. وهم، إذ يتّبعون هذا المسار يُجهضون الكشف الإلهيّ ككشف، فتستحيل حكمتُهم جهالة، وهم لا يعلمون! العقل، خارج حدود الإيمان بالله، آلة إعثار!
على أنّ روح الرّبّ لا ينير الأذهان لتفهم إلاّ إذا اتّشح القلبُ بالاتّضاع! الذّهن، هنا، ليس مرادفًا للعقل، بل، على نحو مقاربة الآباء القدّيسين، هو القلبُ أو عرش القلب، وما به يدخل الإنسان في وصال مع الله وروح الله، على نحو مباشِر، وما يستمدد الإنسانُ كلُّه منه النّورَ النّازلَ عليه من فوق ليقارب كلَّ أمر إلهيًّا، أيضًا، لا بشريًّا فقط!
توما كان شاكًّا، هذا لا شكّ فيه، لكنّه كان على اتّضاع في القلب، انبثّ فيه وترسّخ، من جرّاء عشرته ليسوع وسماع كلامه ومعاينة آياته، المزدوجة بنقاوة طويّته. وهذا، تمامًا، هو ما أهّله لاقتبال وهج الإعلان الإلهيّ المتمثِّل بما نطق به، بإزاء يسوع القائم من الموت: “ربّي وإلهي!” لا الموضوع، في عمقه، موضوع شكّ، ولا موضوع عدم شكّ. الموضوع موضوع قلب خاشع متواضع يبتلع، بنعمة الله، كلَّ الشّكّ؛ و”القلب الخاشع المتواضع لا يرذله الله” (المزمور الخمسون)!
في القولة “ربّي وإلهي” ما لم يسبق لأحد أن تفوّه به! بطرس قال، في الرّوح، عن يسوع، إنّه المسيح. ويسوع قال، عن نفسه، للسّامريّة، إنّه المسيح. ولكنْ، لم يقل أحد باليقين الكامل، والفم الملآن، والفوريّة والشّفافيّة الكاملَين، والتّصريح السّنيّ الأوضح، عن يسوع، وخاطبه بالضّمير الشّخصيّ الّذي لا يقبل التّأويل، كما قال توما وخاطب السّيّد لمّا هتف به: “ربّي وإلهي!” إلى ذلك الحين، كان الله، في الوجدان العبريّ، هو الأوحد. لو كان أحد ليقول عن الله، كما تمثّل في وجدان بني إسرائيل، “ربّي وإلهي”، لكان الأمر منسجمًا وإيمان الشّعب. أمّا توما، فقد تفوّه لا فقط بما لم يكن ليخطر ببال أحد، بل، أيضًا، بما لم يكن أحدٌ ليجرؤ على التّفوّه به، لأنّه كان سيُحكم عليه بالتّجديف والشِّرْك، ومن ثمّ بالموت! فقط بقوّة الله، وبجرأة من فوق، كان بالإمكان التّصريح عن يسوع وبإزائه أنّه هو إيّاه “ربّي وإلهي”!
هذا الّذي وقف توما بإزائه في العلّيّة، وذاك الّذي طالما وقف بنو إسرائيل بإزائه في الهيكل استبانا واحدًا! لأوّل مرّة، ما سبق أن خبّر به، بالرّوح، يسوعُ أنّه والآب واحد، يعتور توما الرّوحُ برمّته، بإزاء يسوع، ليشهدَ به! الخوف من الشِّرْك كان، إلى ذلك الحين، ليؤكّد وحدانيّة الله كشفًا؛ فلمّا تكلّم الرّوح بتوما، في تلك السّانحة، اكتملت الصّورة، إذ تكشّفت وحدانيّة الله وتأكّدت، لا باعتبار أنّ ثمّة مسافة لا تُقْطَع، وهوَّة لا تُردَم بين السّماء والأرض، بل من حيث إنّ وحدانيّة الله ثالوثيّة، وأنّه لا مسافة، بعدُ، تفصل بين الله والإنسان! التّجسّد ألغاها! ولا هوّة، بعدُ، بين السّماء والأرض لأنّ ابن الله اتّخذ، في ذاته، الإنسانَ كلّه، إلاّ الخطيئة، وبات في متناول البشريّة في الصّميم: “خذوا كلوا، هذا هو جسدي… اشربوا منه كلّكم، هذا هو دمي”. صحيح أنّه قيل إلى المسيح: “الله لم ينظره أحدٌ قطّ” (1 يوحنّا 4: 12)، أمّا الآن فلنا هذا القول: “أنّنا سنراه كما هو” (1 يوحنّا 3: 2). الشّرط الأوحد هو هذا: “كلّ مَن عنده هذا الرّجاء به، يطهِّر نفسه كما هو طاهر” (1 يوحنّا 3: 3)!
الطّهارة مطرح التّواضع! لذا انتصب توما صورةً للبشريّة الجديدة، كما أتى اعترافُه دستورَ إيمان جديد لهذه البشريّة. الإيمانُ الجديد يسوس المقبلين إلى يسوع ليصيروا بشرًا جددًا بالرّوح والحقّ! “هذه هي الحياة الأبديّة أن يعرفوك أنت الإله الحقيقيّ وحدك ويسوع المسيح الّذي أرسلته” (يوحنّا 17: 3). “الكلام الّذي أُكلِّمكم به هو روح وحياة”! أن يعرفوك لا كموضوع، لا كفكرة مهما كانت سامية. أن يعرفوك أي أن يصيروا فيك وأنت فيهم، أن يصيروا وإيّاك واحدًا، أن يحبّوك بالمحبّة الّتي أحببتهم بها، المحبّة الّتي جعلتك تتّخذهم بالتجسّد!
توما الشّاكّ تجدّد بكلمة الرّبّ يسوع وروحه. خلع ما تخلّع ليلبس، داخليًّا، ثوب النّعمة. “أنتم الّذين بالمسيح اعتمدتم، المسيح قد لبستم”. لم يعد اللّباس سترًا لِعورة، بل اتّحاد بالمخلِّص، في الرّوح. إيقونته بتنا، خاصّته، جسده. “ويصير الاثنان جسدًا واحدًا”. العتيق انتهى. دخلنا في عرس كيانيّ. هكذا خاطب الختنُ العروس: “قد دخلتُ جنّتي يا أختي العروس. قطفت مرِّي مع طيبي. أكلتُ شهدي مع عسلي. شربت خمري مع لبني” (نشيد 5: 1). توما الملطّخ بحمأة خطيئيّة البشريّة يغتسل بالمرّ والميعة والسّليخة! “إن كنتُ لا أغسلك فليس لك معي نصيب” (يوحنّا 13: 8)! ما كان توما ليُنشد “ربّي وإلهي” إلاّ لأنّ قيامة السّيّد لامست كيانه عميقًا! وبالتّناضح (By Osmosis) نفَذَ من الظّلمة إلى النّور، من الموت إلى الحياة، من العتاقة إلى الجدّة، كأنّه خلْقٌ جديد لِخلْق انحلّ، كطائر الفينيق!
توما، لمّا أخذ الرّبُّ يدَه ليضعها في جنبه، أخرجه من جنبه حوّاءَ جديدةً، خليقةً جديدة! أما نفخ يسوع في التّلاميذ روحَ الحياة، “أم تجهلون أنّنا كلّ مَن اعتمد ليسوع المسيح، اعتمدنا لموته، فدُفنّا معه بالمعموديّة للموت، حتّى كما أُقيم المسيح من الأموات بمجد الآب، هكذا نسلك نحن أيضًا في جدّة الحياة؟” (رومية 6: 3 – 4).
توما، اليوم، يأتينا مبيَّضًا بالنّور، ناصعًا كالثّلج! قد تمّ، وأسلَمَ يسوع البشريّة الرّوحَ!