الله بعدما كلّم الآباء بالأنبياء قديماً بأنواع وطرق كثيرة كلّمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه..” (عبرانيين 1 : 1 – 2)
وكلام الابن نعرفه بالروح القدس، الذي يعطينا فهم تقليد الكنيسة المكتوب (الكتاب المقدس)، والشفهي ( شهادة حياة الكنيسة)
… نورد فيما يلي أسبوعياً قبساتٍ من تجليات الرب في رعاياه الدمشقية (في أبرشية دمشق)، تعكسها لنا شهاداتٌ وعظاتٌ لآبائنا خدام الكلمة، الكارزين بالقائم من الموت لأجل خلاص العالم
عظة هذا الأسبوع لقدس الأب دانييل نعمة
الأحد الثاني بعد الفصح
يوسف الرامي وحاملات الطيب
مر 15: 43- 16: 8
نحن في الأحد الثاني للفصح حيث تضع الكنيسة أمامنا شخصيات هي من الأهمية بمكان حتى أنها ذُكرت في هذا التوقيت: يوسف الرامي وحاملات الطيب.
الأول دخل إلى بيلاطس وطلب منه أن يعطيه جسد يسوع بعد موته ليقوم بتجنيزه ودفنه بشكل لائق. أما النسوة الحاملات الطيب فذهبن إلى قبر يسوع بعد دفنه يحملن معهنّ الطيوب حسب العادة وعندما وصلن إلى القبر وجدنه فارغاً وطلب إليهنّ الملاكُ أن يسرعن ويخبرن التلاميذ بالقيامة.
ولكن يبقى السؤال: لمَ كل هذا التكريم؟ لماذا تقيم الكنيسة تذكاراً ليوسف وحاملات الطيب في هذه الفترة الخلاصية الهامة وفي الأحد الثاني للفصح مباشرة؟ مالذي فعلوه ومالذي ميّزهم؟.
قراءة متمعّنة في الأحداث تُظهر أن يوسف وحاملات الطيب قد برزوا في وقت غاب فيه الباقون، قد التصقوا بالسيد بالوقت الذي فارقه فيه جميع الناس وابتعدوا عنه، حتى تلاميذه اختبؤوا خائفين ومذهولين وحائرين بأن معلمهم قد مات.
نعم، إنها الجرأة التي نعيّد لها اليوم ومن أجلها نكرّم أصحاب الذكرى.
يوسف الرامي “تجرّأ ودخل على بيلاطس وطلب جسد يسوع”. هذا الإنسان الذي كان “هو أيضاً منتظراً ملكوت الله” علماً أنه لم يكن إنساناً بسيطاً فقيراً وإنما كان متنفّذاً وغنياً، يتشجّع ويتقدّم من بيلاطس متحديّاً كل المخاطر ومجاهراً بإيمانه في الوقت الذي غاب فيه صوت الإيمان، ويطلب جسد الرب لأنه أراد أن يكرّمه في دفنه بعد موته على الصليب.
كذلك فعلت النساء، بجرأة يذهبن إلى القبر متجاوزات كل الصعوبات: الخوف، الحراس، والحجر الكبير الذي على باب القبر.. هذه كلها لم تعد عائقاً. حبّهم للسيد وتعلّقهم به جعلهم يلحقون به إلى قبره.
هنا تُعلن القيامة وينكشف مضمونها وعمقها ولاهوتها: “ليس هو ههنا لكنه قد قام”. من الآن لم يعد يسوع ميتاً ولا هو إله أموات وإنما هو حي وإله أحياء. من الآن لا تطلبوه بين القبور ولا تبحثوا عنه في عالم مائت وإنما ابحثوا عنه في حياتكم وفي قلوبكم.
لقد قام ليُظهر أن الحب لا ينتهي بالموت خاصة إذا كان موجّهاً إلى سيد الحياة والموت.
لقد قام ليعلن بداية جديدة.. والخوف أن نفهم، نحن المسيحيين، القيامةَ على أنها نهاية حياتنا وعلى أنها الخاتمة التي سننتهي إليها. هذا مفهوم ناقص، لأنه في كثير من الأحيان ترتبط أواخر الأمور ببداياتها، وترتبط النتائج بالإنطلاقات. المسيحي ينطلق من القيامة وليس فقط يؤول إليها.
القيامة بالنسبة لنا ليست مجرّد الخاتمة والنهاية والمصير، وإنما هي المنطلق والبداية، هي بداية جديدة وزمن جديد وشخصية جديدة وتوبة جديدة وصفات جديدة تبدأ من هذه الحياة، يعيشها المؤمن ويبدأ بها كل مرة.
إن لم تكن القيامة هي البداية لحياتنا وتفكيرنا وتصرفاتنا ومصالحاتنا فلا نتوقّعنّ أن تكون النهاية إلاّ مخيّبة للآمال.
القيامة البداية الإنطلاق تحتاج إلى جرأة، ولهذا نعيّد اليوم ليوسف الرامي وحاملات الطيب، هؤلاء حدّدوا هدفهم وانطلقوا نحوه بجرأة. نحن اليوم نعيش في ظروف تشابه إلى حدّ ما تلك الظروف التي عاش فيها يوسف وحاملات الطيب. نحن اليوم في عالم يُبعِد عنه يسوع، عالم يحتجز المسيح وكأنه يضعه في قبر، يبعد الناس عنه، عالم يريد أن يقنع البشر أن يسوع ميت وأن رسالته قد انتهت وتعاليمه لم تعد تعمل ولم تعد تنفع. نحن في عالم يقنعنا أن الحجر الذي يغلق قبر المسيح كبيرٌ جداً لايمكن لأحد أن يزيحه، وبالتالي لا يمكن للمسيح أن يخرج ويساعدنا. نحن في عالم أصبح الناس فيه يتخلّون بسهولة عن دينهم وعن مسيحهم، يخجلون به.
في هذا العالم الصعب والزمن الصعب، نحن بحاجة إلى جرأة كي نطلب المسيح. بعد موت يسوع وقيامته نحن بحاجة إلى رجال، ليس بمعنى الذكورية، ولكن الرجولة كموقف يتّخذه الإنسان، كل إنسان. الرجولة هي موقف، هي قرار، هي اختيار، هي جرأة أن نطلب جسد الرب وحياته وقيامته دائماً وفي كل الظروف.
بهذا المعنى، إن كنا رجالاً، ننتقل من حاملات الطيب إلى تطيّيب العالم كله.
المسيح قام.. حقاً قام.
الأب دانييل نعمة