القلق عنوان العصر! لا سلام حقيقيّ، حتّى لو لم تكن هناك حرب! خيرات الأرض تستحيل لعنات! ما يُفترض به أن يكون للفرح جعلناه للشّقاء! الوجه يضحك والفم يقهقه والقلب يبكي! نشعر بالنّشوة، إذ نتعاطى ما توفّر، وهو كثير، ولكن لا بهجة في القلب! المخازن طافحة والخيرات دافقة والقلب فارغ! لا شيء يُشبع! لا شيء يروي! حال إدمان على أهواء النّفس دون شعور بالأمان! “ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان…” نسعى لأن نبدِّد ما فينا من قلق بمزيد من الجمع، من المال، من القنية، من الاستهلاك! والنّتيجة: مزيد من القلق، وقلق على ما حسبنا أنّه يزيل منّا القلق! القلق يستهلكنا! وما نستهلكه يستهلك فينا قوى الحياة! من استهلاك إلى استهلاك إلى هلاك! بعد حياة فارغة يأتي موت خاوٍ! وبعد حياة سمجة تأتي ميتة سخيفة! مِن لا معنى إلى لا معنى! إلهنا العبث! هذا تاريخنا! الباقي تفاصيل تافهة! تراب في تراب!
مَن ليس له ما تشتهيه نفسه يعمل ما في وسعه ليحقِّق ما يشتهيه! بين رغبة مشتهاة ورغبة مقضيّة ينقضي العمر كأنّه لم يكن! قبل أن يكفر المرء بإلهه يسفِّه نفسه! ومن العمل ما هو حلال وما هو حرام. في كِلتا الحالَين، ليس أحد راضيًا! لا الغنيّ ولا الفقير! كلاهما من طينة واحدة! إذا لم تسنح له الظّروف، يشعر بالظّلم، بالفأل السّيّء، بالإحباط، بالغضب، بالنّقمة… يحقد. يثور. يلعن. يسرق. يقتل… ولا ينسى، أبدًا، أن يبرِّر نفسه في كلّ حال! وإذا سنحت له الظّروف يطلب المزيد. وللتّأمين على المزيد يطلب المزيد! يشكو أنّ الآخرين يظلمونه، يتهدَّدونه، يزعجونه، يقلقونه… فإن بلغ المرام يقمع الآخرين بمثل ما قُمِع هو به… أيضًا وأيضًا، باسم الفقير والمظلوم والمحروم… هذه محطة القطار الّتي تنقل الوصوليّين إلى بؤرة الضّوء في هذا العالم…
ثوروا يا ناس! الحال لم تعد تطاق! يثورون! يُنهَكون! يُضحّون! يُمنّون النّفس بالفردوس الآتي! حرّيّة، عدالة، ديمقراطيّة، انتعاش، سلام… يستميتون! أخيرًا يأتي مَن يَحْصُد ولم يتعب! وصلنا بوصوله! نجحنا! احتفالات، أعياد، مفرقعات! فجأة، من “الفضاء الخارجيّ” يأتي مَن يسرق الثّورة! واعجباه! لا يبقى من حصاد الثّورة إلاّ الفتات تُوزَّع على المحازبين والمستزلمين والمتذلِّلين! الباقون يكفيهم تبن الشّعارات وأنّهم قدّموا شهداء للقضيّة! القضيّة الّتي ضاعت في متّاهات اللاّعبين! عندما يعي مَن قدّم الدّم والعرق ما حدث، يكون القطار قد فات، ولا يبقى له غير المرارة والحرقة والخيبة والقرف!
ثمّ تمضي سنوات. تكرّ كرًّا. ينسى النّاسُ! يأتي فوج جديد من الطّامحين ليحرِّك المياه الرّاكدة من جديد: فقير، مظلوم، محروم! يهبّ النّاس من جديد، كأنّ ثمّة جديدًا! تُستعاد دورة القتل والخراب والدّمار! دموع، شقاء، بؤس! يطلّ وعد الثّورة من جديد! تُعلَّق الشّعارات عينها من جديد! تمتلئ القبور! يتحرّك الاقتصاد الأسود! عُدنا، والعَود أحمد: القضيّة! ومن جديد، تمتلئ الجيوب الفارغة، وتصدح الوقاحات الجارحة! يُزاح قوم عن الكراسي! يؤتى بغيرهم! وجوه جديدة “ملمّعة”! حقّقت الثّورةُ أهدافَها! طبقة جديدة من الطّامحين الموعودين الواعدين يَصلون أو ينزلون بالمظلاّت! الأمور هذه المرّة مختلفة! ومن جديد – لا ننسَ “الجديد” – يبلعون كلّ شيء، بشهيّة الفيل الّذي لا يترك للفأر سوى الفتات والازدراء، والكثير الكثير من تبن الشّعارات ليملأ النّاس أحشاءهم بما لا يقيت وأفواههم بالكلام الفارغ! وهكذا دواليك! تكرّ السّبحة! جديد يتعتّق وعتيق يتجدَّد!
ليست المشكلة في ندرة خيرات الأرض! كريم أنت يا الله! هناك ما يكفي الجميع ويزيد لو عدلوا! فقط ما يُنفَق، سنويًّا، على الكلاب والقطط، وما يُتلَف، يكفي فقراء الهند وأفريقيا، وحتّى سائر بلدان العالم! المشكلة أنّ قلب الإنسان مريض! لا شيء يكفيه! لذا كلّ شيء يتعاطاه يتعاطاه بطريقة مَرَضيّة! فلأنّ الإنسان أنانيّ يستعمل خيرات الأرض لتزكية أنانيّاته، ولا يبالي بالآخرين! ولأنّ الإنسان متكبِّر يدخل في صراعات لا قرار لها مع الآخرين! قالوا عن واحد إنّه عاتب على الله. لماذا؟ لأنّ الله خَلَق غيره! ولأنّ الإنسان لا يحبُّ إلاّ نفسه يتعامل مع الآخرين ببخل! ولأنّ الإنسان يقدّم فكره على فكر غيره يعمل على الحطّ من قدْر الآخرين وإلغائهم! ولأنّ الإنسان لا يريد لا أن يتعب ولا أن يضحّي محبّةً بالآخرين يتسلّط عليه روح الزّنا ويستغلّ الآخرين! ولأنّ الإنسان يتغرَّب عن الحبّ يتغرّب عن الله! ولأنّ الإنسان يستخفّ بالحبّ يستخفّ بالحقّ! يصير الزّنا لديه هو الحبّ ويصير الباطل لديه هو الحقّ! كلّ تَشييء للإنسان زنا، وكلّ تبرير للذّات باطل!
لا يأتي القلق من الخارج، من الواقع والظّروف الخارجيّة الّتي يعيش الإنسان في كنفها. يأتي القلق من القلب “المتقلقل”، أي من القلب المضطرِب الّذي لا سلام فيه ولا أمان له. والسّلام الحقيقيّ لا يأتي إلاّ من التّسليم الفعليّ، أي من الإيمان الحيّ بالله. وحده الإيمان بالله يُخرِج أمانًا، كما يُخرج البخور عطرًا. طبعًا، إذا كان القلب حارًّا في محبّة الله! “إن لم تؤمنوا فلا تأمنوا”. إذًا، القلق مصدره عدم الإيمان بالله، ومن ثمّ خلو القلب من نعمة الله! أو قل، القلق هو المؤشِّر أنّ الإنسان لا يؤمن بالله وأنّ النّعمة الإلهيّة تنقصه! في هذه الحال، لا بديل! لا علاج آخر ينفع! لا بديل عن الإيمان إلاّ الإيمان! ولا بديل عن النّعمة إلاّ النّعمة! يبقى المرء في القلق المتزايد مهما فعل! القلق لا يمكن أن تزيله تدابير العقل والعِلم! بالعكس، تدابير العقل والعِلم، إذا ما أصرّ الإنسان عليهما، تزكّي القلق وتزيده سوءًا وتعمِّقه وتعقِّده! القلق لا تزيله سوى تدابير القلب. فقط، ساعتذاك، تزكّي تدابير العقل والعِلم، كتدابير إجرائيّة، حالة السّلام الدّاخليّ في الإنسان وتعمِّقها!
قالوا لكم: “العقل هو الحلّ”! كذّابون! لا يعلمون عمّا يتكلّمون! يريدون أن يعقلنوا العالم ليتسلّطوا عليه! هذه هي الطّريقة البشريّة لتحويل العالم مرسحًا لتدابير الشّيطان وسلب الإنسان ما تبقّى من إنسانيّته! الحلّ هو “قلبنة العالم”! القلب هو الحلّ! أَصلِحوا القلب يصطلح العالم! كلّما تحوّل اهتمام الإنسان من تنقية القلب إلى إشادة منشآت العقل، زعمًا لإصلاح شأن البشريّة، كلّما عمّق ذلك الفراغ في كيان الإنسان وزاد من شعوره بالقلق وأطاح إنسانيّته. الفراغ في الإنسان لا يملأه غير الحبّ. وحده الحبّ يعطي الإنسان أن يقيم في الحقّ. ووحده الإيمان الحيّ بالله يعطي الإنسان أن يختبر المحبّة في الحقّ!
القلق، خارج نطاق النّعمة الإلهيّة، لا علاج له! فقط بعض المسكّنات، أو قل المخدّرات، يقدّمها العِلم، في أحسن الحالات! القلق، في العالم، تَهرب وتهرب منه بالمتعة، بالمُسكر، بالمخدِّر، وبما أشبه ذلك، ولكنْ، فقط إلى حين. عليك، دائمًا، أن تخترع طرقًا جديدة للهرب، على غير طائل! وتبقى، كذلك، إلى أن تكلّ ولا تقوى، بعدُ، على الهرب، فتسقط صريعًا!
القلق يحوِّل عطايا الله لعنات والأرض جحيمًا قبل الجحيم! عبثًا تحاول! لا حلّ! الأوهام لا تنفع! عليه، يستحيل عالمنا أرضًا للكذب والتّكاذب! من أقوال القدّيس أنطونيوس الكبير أنّ العالم، في أواخر الدّهور، يجنّ! النّاس يجنّون! فإذا ما وجدوا إنسانًا واحدًا عاقلاً، قالوا له: “أنت مجنون”!
لذلك، طوبى لمَن يحفظ نفسه من حكمة هذا العالم الجاهلة، ولا يغادر ما يعتبره العالمُ جنونًا!
المؤمنون، في الزّمن الأخير، لا يمكنهم أن يحافظوا على إيمانهم إلاّ إذا قبلوا أن يكونوا مجانين! ما داموا يسيرون عكس التّيّار، فسيُعامَلون كمجانين، كما عامل نوحَ أهلُ مدينته، لأنّه كان يبني فُلكه الغريب في زمن الجفاف! الجنون هو شهادة المؤمنين، اليوم، بامتياز! فقط عليهم أن يقبلوا تعييرات العالم! لا حاجة لهم لأن يتبالهوا، ما دام العالم يَسِمُهم بالجنون! فقط عليهم أن يقبلوا الفرز المعنويّ الّذي يفرضه عليهم عالمهم! هذا أعظم، بما لا يقاس، من حال التّباله في المسيح! أعظم القدّيسين هم قدّيسو الزّمن الأخير الّذين يَلزمون الصّليب، صليب ربّهم، فيما يصرخ العالم في آذانهم ويضطهدهم: لا خلاص لهم بإلههم!
هذه هي النّعمة المعطاة لنا في هذا الزّمان الرّديء، أن نكون، لا بل أن نصير كبارًا، فقط بالثّبات إلى المنتهى! ليست الحاجة، بعد، إلى بطولات نسكيّة، وإن كانت البطولات النسكيّة بركة في كلّ حين! أعظم البطولات باتت الثّبات في الأمانة “لاسم يسوع” إلى المنتهى! يكفي المؤمن، في الزّمن الأخير، أن يقول من كلّ قلبه: “ارحمني يا ربّي، أنا الخاطئ”، ليُحصى في عداد كبار القدّيسين!
لذلك طوبى لمَن يسهر ويحفظ ثيابه (رؤيا 16: 15)، وهو موقن أنّ الرّبّ الإله قادر أن يحفظ وديعته إلى ذلك اليوم (2 تيموثاوس 1: 12)!
حِفْظُ الإنسان نفسَه من العالم، اليوم، أعظمُ النّسك، والشّهادة اليوميّة لمسيح الرّبّ؛ والطّريق المباشر إلى قلب الله… خروجًا من القلق!