المطران جورج خضر… صوتٌ نبويّ‏

mjoa Friday May 31, 2013 125

ذات يوم من ربيع 1969، وأنا طالب في الجامعة الأميركية في بيروت، استوقفني زميل دراسة على مدخل الجامعة قائلاً: «ألم تقرأ ما كتبه وائل الراوي عن مجموعتك الشعرية؟». وفي جريدة لسان الحال اليومية، حيث كان الأب جورج خضر آنذاك ينشر افتتاحية أُسبوعية باسم وائل الراوي، قرأت تحليلاً لمجموعتي الشعرية «أجراس اليوم الثالث» هي من أرفع ما يمكن تسميته نقدًا أدبيًا. ولم أكن قد وقعت على كتابة لرجل دين عربيّ اللسان بهذا المستوى الثقافي – الفكري – الأدبي سعةً وعمقًا. صحيحٌ أني قرأت كتابة عربية غزيرة من هذا الصنف بعد ذلك الحين. لكنها جاءت كلها من قلم وائل الراوي نفسه وقد صار المطران جورج خضر. كتب عن شعري أعمق الكلام وأجمله ولمّا يرَ واحدنا الآخر بعد. وكان صديقنا المشترك، الشاعر أدونيس، أشار عليّ بأن أترك معه نسخة من «أجراس اليوم الثالث» هدية للأب جورج خضر. وإنما فعلتُ ذلك لا بقصد أن يكتب عن المجموعة، لكن تقديرًا لثقافته الأصيلة النادرة. ومنذ ذلك الحين توطّدت بيننا صداقة صافية مستمرة.

قلت إنّ ما قرأته من فكر وأدب عظيمين لرجل دين في اللغة العربية كان من إبداع المطران جورج خضر. معظم كتاباته مقالات على غرار كتّاب كثيرين حول العالم. لكننا أمام كاتب لا يضيره طول كتابة أو قصرها، إذ إن كلاً من مقالاته يرتسم مثل أيقونة تفتح لمن كان له عينان للنظر وأُذنان للسمع أبعادًا لا تنتهي، لا بل تفتح للكثيرين عيونًا وآذانًا. وها هو اليوم على عتبة التسعين يكتب وكأنه في الثلاثين جدّةً واندفاعًا. إنه سيّد المقالة في اللغة العربية. لا يمكن أن تقرأ مقالة واحدة له إلا وقد زدتَ علمًا وحكمة وبُعد نظر. ولو قصدتَ أن تقتطع من كل مقالة ما هو بمثابة أقوال مأثورة، لصنّفتَ كتابًا قيّمًا من مأثوراته التي يجتمع فيها اللاهوت والأدب والفلسفة والاجتماع والسياسة. المخاطَب عنده لا يقتصر على من انتمى إلى الأُرثوذكسية، ولا إلى المسيحية، ولا إلى الاسلام. المخاطَب عنده هو الانسان في انكساره ومحدوديته، في يأسه ورجائه، في عرائه وهو متروك وحيدًا يبحث عن درب خلاص.

بين مآثر المطران الأديب معلَمٌ فريد هو كتابه «لو حكيت مسرى الطفولة». وقد كانت لي قراءة للكتاب بعيد صدوره عام 1979، نُشرت في مجلة المستقبل في باريس وأنا مقيم هناك. وصارت تلك القراءة نقطة انطلاق لما قيل في هذا الكتاب حتى اليوم. وإذا كان من أبرز الشروط لفهمنا كتابًا معينًا أن نستطيع وضعه في الخانة الملائمة التي ينتمي إليها، فلعل النقطة المحورية في قراءتي المذكورة وضع «تحفة» المطران خضر مع عدد من السيَر الفكرية أو الروحية أو الثقافية. هكذا صنّفتُه مع كتب عظيمة خلال التاريخ، مثل «تأملات» ماركوس أُوريليوس و«اعترافات» أُوغسطين و«منقذ» الغزالي وما نسبه دوستويفسكي إلى الأب زوسيما. وإذ نسي بعضهم صفة الروحية أو الثقافية، اكتفوا بتسمية الكتاب سيرة ذاتية. وهذا خطأ. إلا أن السيرة على أنواع. والروائي نفسه يستطيع أن يضع على لسان عدد من أبطاله جوانب من سيرته الفكرية. وما تزال سيرة المطران جورج الشخصية في حاجة إلى من يكتبها.

وبما أنني معنيٌّ مباشرة بهذا السجال الذي انطلق من قراءتي للكتاب، ظل موضوع السيرة التأملية يلاحقني حتى التمع في ذهني قبل أسابيع قليلة حدس يعزز موقفي، انطلاقًا من الاسم الذي أطلقه المطران على بطله: «صاحبي». وهذا الحدس نورٌ قذفه اللّه في الصدر من قوله تعالى: «ما ضل صاحبكم وما غوى. وما ينطق عن الهوى. إنْ هو إلا وحي يوحى» (سورة النجم، 53: 2-4). لم أُفاتح صديقي الكبير بهذه الفكرة. لكنّ شعوري أنه استعار اسم «صاحبي» من تلك الآيات البيّنات.

الذين تحلقوا حول الأب جورج خضر الشاب أوكلوا إليه مهمة نبوية لما توسموا فيه من مواهب. وهو ارتضى تلك المهمة الشاقة وتعهد هذه المواهب الالهية خير تعهد. وإذ وقف ينتقد كل ما رآه قتلاً للروح في الكنيسة التي تحولت إلى مؤسسة على أيدي أُناس مسخوا جسد المسيح إلى جسد من سياسة، انقسم الناس في شأنه فئةً للمؤسسة وفئة للمسيح. هكذا يبدو – والكتاب يدور على هذا النضال – أنّ اسم «صاحبي» لم يأتِ مصادفة، بل هو تأكيد لدور المؤلف الاصلاحي النبوي. ولقد كانت حياته ورسالته وكتاباته كلها جهادًا لاستعادة المسيح، وكأنه يقول مع بولس الرسول: «بل إني أحسب كل شيء خسارة من أجل فضل معرفة المسيح يسوع ربي الذي من أجله خسرتُ كل الأشياء وأنا أحسبها نفاية لكي أربح المسيح» (فيلبي 3: 9). من هنا أقول إن أعمال جورج خضر الكاملة، لا هذا الكتاب فقط، يمكن تصنيفها تحت السيرة التأملية. هذا رجل كلمتُه وحياته واحد.

فيا صاحبي،
كم كان حظ الكثيرين عظيمًا أنهم عاصروا فيك واحدًا من الذين «لا خوف عليهم ولا هم يحزنون» (سورة يونس، 10: 62). وكم سيكون حظ أجيال كثيرة عظيمًا لأنك مهدتَ لها طريقًا آمنًا. كبيرٌ أنتَ في جماعة صنعت للعرب نهضتيهم: النهضة الأُولى في العصر العباسي والنهضة الثانية في الأزمنة الحديثة. صوتًا نبويًا كنت لا في جماعتك المحدودة فقط، بل في الجماعة العربية وفي الجماعة الانسانية ككل. كنت أبًا من آباء الكنيسة المعاصرين، بل الأب الكبير الأول للكنيسة في اللسان العربي. ليس متوقَّعًا من رجل دين ما كنته، ولا من أديب ما كنته. إلا أنك صاحب كرامات. أينما حللتَ كسرتَ المألوف، فكنتَ – بيد سيّدكَ رب العالمين – صانع عجائب. أوليست المعجزات هي الأعظم بين خوارق العادات؟

إني، إذ أستحضر مسيرتك اليوم، أتذكر قصيدة للشاعر تي إس إليوت يفتتحها بقوله: «في بدايتي نهايتي»، ويختتمها بقوله: «في نهايتي بدايتي». أتصوركَ بداية متجددة على الدوام، كأنما أنت هو القائل في قصيدة إليوت نفسها: «إني هنا أو هناك، أو في موضع آخر من بدايتي». أو كأنك القائل من قصيدة أُخرى لهذا الشاعر: «لا، لن نكفّ عن الكشف. ونهاية كشفنا كله هي أن نصل إلى حيث انطلقنا، ونعرف المكان كما لمرة أُولى. حال من البساطة التامة، ثمنُها لا أقل من كل شيء».

بل دعني أختم بقصيدة ذات أبيات ثلاثة كتبتُها لك، ومن وحيك، في القرن الماضي:

كان وهجًا من الأقاصي، حقولاً
بليالي أحلامنا مسكونه.
مرةً مر بالربيع أعاصيرَ،
وبالموج فاستحال سكينه.
وغدًا يَعبر الظلامَ ويمضي،
تاركًا وجهه لنا أيقونه…

جائزة جان سالمه – نقابة الصحافة اللبنانية في شوران
كلمة الدكتور أديب صعب في حفل تكريم المطران جورج خضر

 

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share