أنت من البلد قليلاً أو كثيرًا. حسب مزاجك أو وضعك الروحي أنت مستقل عنه أو تابع. فإذا كنت متقلّبا كثيرًا يصرعك واذا عشت بقوة مع الله فهو موطنك لا البلد. الإنسان تابع قليلاً أو كثيرًا لما أو لمن يحيط به. ما هو بذائب فيه بالضرورة ولا هو حائد. لا يحيا الإنسان بالضرورة من مكان مع انه دائمًا في مكان. المكان أحيانًا يحيا منه. هذا تابع لقوة إشعاعه. لا بدّ من حيّز تكون فيه ولكن لك الا تكون عبدًا للحيز.
أنت في زمان وتجيء من أزمنة ولكنك لست بالضرورة صريعها ولا لصيقها. ان كنت كبيرًا تصنعها وهذا لا يأتي منك. ينزل عليك من فوق. عندما نقول بأبدية الله نريد انك حر من أزمنة سبقك أو أزمنة تعيشها. أبدية الله اذا انسكبت فيك ترى ربك نازلاً إليك. أنت متصل بالزمان ولكنك قادر على الحرية ان تجاوزته إلى الأبدي المسكوب فيك.
ان أدركت هذه الرؤية تعرف ان ترتبط بالبلد ارتباطًا سويًا فلا يستعبدك ولا تتجاهله. ان عدنا إلى إنجيل يوحنا نقول إنك في هذا العالم ولست منه أي انك تأخذ منه ما ينفعك ولا يحصرك. على هذا المثال أنت من البلد. ولست ذائبًا فيه بجنون قومي. ولكن ان حدت عنه حتى الابتعاد تصبح خائفًا منه ومدمّرًا لنفسك.
أنت من تاريخ، من هذا الذي تحسه فيك وهذا لا يملى عليك كما يفعل متطرفو القومية. لا يستطيع أحد ان يسحبك من سلالة. أنت تقرأ ما فيك في الآباء الذين تريد وتقرأ ماضيك حسب الإحساس التاريخيّ والذوقي الذي كونك. والوحدة في قراءات عديدة ممكنة. البلد لا يقرأه أحد عنك. أنت تذوق وفق تكوينك الداخلي ويشع منك بالقوة التي فيك. ولكن يجب ان تضع نفسك في قراءة. عدا ذلك بلبلة.
وإحساسك بمن تجيء منهم لا يجعلك بالضرورة غريبًا عن شرائح لها قراءة أخرى لما فيها. وعليك ان تقبل بماضي الآخر كما يقرأه هو. يوافق تحليلك الواقعي التاريخي أو لا يوافقه. أنت عليك ان تحب الآخر الذي يستمدّ نفسه من نسب تاريخي غير نسبك. المهم ان يحبك اليوم على اختلاف القراءتين. لقد أتعبنا الخلاف على الماضي. في الواقع كان مواجهة بين عقائديات تاريخية مختلفة غالبًا ما كانت في هذه البلاد تخفي عقائديات دينيّة متواجهة. في الحقيقة ان الاختلاف على التاريخ يخفي إرادة خلاف في الزمن الذي نعيشه.
الإختلاف حول الهويات التاريخية في لبنان ليس إختلافًا في قراءة التاريخ. غالبًا ما كان إختلافًا في العقيدة الدينيّة أو استقلالا عن العقيدة الدينيّة.
أنت في البدء آتٍ من موقف ديني تلبسه في النقاش تعبيرًا تاريخيًا لتبين عقلك العصري. على سبيل المثال تخفي العروبة عندك اما موقفًا إسلاميًا أو موقفًا مناوئًا للكثلكة المارونية أو علمانيّة محايدة. لا شيء في بلدنا يعني فقط ما تعبّر عنه اللغة. أنت تقف موقفًا في العمق العقائدي ثم تستعير له اللباس التعبيري. ليس أحد منا غير متحيز أي غير قائم في حيز، في مكان عقائدي. الفلسفة عندنا تغطي الدين وأحيانًا اللغة تغطيه.
أنت تجيء من الموقع العقائدي الذي تقفه فتنحت له لباسًا فكريًا متمدنًا. ويتصادم الناس في ما يطرحونه من مواقف هي ألبسة لقناعات أعمق معظمها ديني. وإذا لم يكن عندك موقف روحي واضح لا تدخل في صدام. تبقى في المقولات الظاهرها تاريخي.
فتش عن كل المفردات التي تخفي تاريخًا سياسيًا (لبناني، سوري، عربي) تراها متصلة بمواقف دينيّة أو لا دينيّة (واللاديني إقرار بالديني حتى ينفيه) ليس في نطاق الفكر حياد عن الله لابسًا ثوبًا دينيًا أو لا دينيًا.
سمعت أندره جيد (Gide) في بيروت منذ ستين سنة يكلمنا عن الفكر الفرنسي ويقول إنه مثل قارب يسلك بين ضفتين ضفة الإيمان وضفة الإلحاد. فهمت انه يريد ان أهل بلده في زمانهم يختارون بين الإيمان والإلحاد. ماذا يختار مفكرو بلدي؟
فكر بلدنا فسيفسائي ليس فقط بمعنى التعدد ولكن بمعنى التصادم وأنت حر أمام هذا التعدد ولكنك لا تستطيع ان تبقى ازاءه فاترًا إذ يقول الله في سفر الرؤيا: «كن ساخنًا أو باردًا، لا تكن فاترًا لئلا أتقيأك من فمي».
ليس البلد فقط مدى جغرافيًا. هو قبل كل شيء تاريخ أي مواقف عقائدية أو إعتقادية تقفها آتيًا من مواقع تخفيها أو لا تخفيها. من هنا ان البلد ليس في قناعاتنا واحدًا لكوننا لسنا مثقفين على فلسفة للوجود ولا على نظرة دينية توحي غالبًا بفلسفة تعايش واحد أو توحي بعكسه. التوتر قائم في خياراتنا الفكرية ولذلك لسنا شعبًا واحدًا. نحن شعوب ترتبط بعضها ببعض بمتحد إجتماعي اتفقت عليه أو اضطرت إليه. وبسبب تعدد المفاهيم في الفلسفة الإجتماعية التي نقيم عليها البلد نحن منقسمون ولو سعينا إلى الوحدة. ما يعزينا ان كل بلد في العالم منقسم ولو ظن الناس كلاميًا انهم هكذا أو هكذا.
وأنت عليك ان تتحد في هذه الفسيفساء لتحسب نفسك واحدًا مع مواطنيك والاتحاد ان تصبو إلى وحدة عليك ان تقويها كل يوم. وعلى قدر العزائم من جهة وعلى قدر الإيمان بالبلد الآتي تتضح صورة الحياة العظيمة.
والإيمان يعني الجهاد الموصول في الفكر والعمل على قدر طاقات كل منا إلى ان يعطينا الله بركاته للأزمنة الآتية.