أن تقول إنّك تحبّ الله لا يكفي. ما لم تعبده بالرّوح والحقّ فلست بعابد له ولا عارف به بل متكلِّم عليه. تتعاطاه، إذ ذاك، نظريًّا، كوثن، إن كنت صادقًا، لا كإله! لا همّ ما تظنّ! قد تصدُق لكنّك تكون واهمًا! المهمّ ما هو حاصل لك فعلاً! إذ ذاك، إن عبدته بالرّوح والحقّ، تكون في الصّدق والحقّ معًا! هذا كلام يحتاج إلى إيضاح.
أوّلاً، كلّ إنسان مفطور على طلب الله. ليس بإمكان أحد أن يعيش من دون إله. وجود الله، في حياة كلّ أحد، مزروع في كيانه، كما أبوه وأمّه فيه. على صورة الله ومثاله خُلق، قالت الكلمة! طالما المرء موجود فأبوه وأمّه وآباؤه وأجداده موجودون فيه. الفيلسوف الفرنسيّ ديكارت قال إنّه يفكِّر، إذًا هو موجود. بإمكان آخر أن يقول: أنا أحسّ إذًا أنا موجود. كما بإمكان ثالث أن يقول إنّه يحبّ لذا هو موجود. طبعًا، الفكر والحسّ، وخاصّة الحبّ، من أدلّة الوجود. ولكن دليل الأدلّة على الوجود أنّي أنا موجود لذا الله الّذي أوجدني موجود، ثمّ، بعد ذلك، لأنّ الله موجود أنا موجود! ليس أحدٌ منّا موجودًا في ذاته. ربّما هذه نزوة عميقة، واعية أو غير واعية، في كيانه. لكنّ، في هذا، ادّعاءً سمجًا وتصوّرًا إيهاميًّا. الحقّ أنّ وجود كلّ منّا إنّما يشير، تلقاءً، إلى مَن أوجده. الحياة الّتي فيّ أخذتها مِن أب وأمّ سَرَتْ فيهما الحياة وانسكبت فيَّ، لذا تسنّى لي أن أُوجَد. لا تأتي الحياة من لا حياة، بل، في المدى الأقصى، ممّن هو الحياة!
فمَن حسب أنّ الحياة أتت وتأتي من تلاقي عناصر صمّاء اتّفق التقاؤها اتّفاقًا، بنى نظرته إلى الوجود على خطأ واختلال؛ ثمّ من الخطأ، في الموقف الكيانيّ، دَلَف ويدلف إلى الخطيئة، أي الفساد في تعاطي الوجود! من هنا كون الخطيئة أكذوبة قائمة على مسلَّمة كيانيّة جاهلة، ما يعادل، كتابيًّا، الغباء! البديهيّ يستحيل محالاً والمحال بديهيّة! بعد ذلك، تكرّ التّفاصيل في مناخ من الحكمة المشيّعة أو في مناخ من الغباء المشيَّع، ويرتفع صرْحُ المعارف، زورًا في هذا الاتّجاه، أو حقّا في ذاك، فتمسي المألوفات بمثابة محصّلة طبيعيّة! قليلاً ما يسائل المرء، بعد ذلك، ما إذا كان ما نشأ عليه صحيحًا أو مغلوطًا، إذ يصبح الغباءُ، أو ربّما الحكمةُ، قاعدةَ الكيان لديه، أو أساسَ نظرته إلى الوجود! فإذا سلّمنا ببديهيّة وجود الإنسان، كإنسان، فلا يمكننا إلاّ أن نسلّم ببديهيّة وجود الله كإله، ومن ثمّ ببديهيّة وجود الله كحركة كيانيّة أوّليّة قاعديّة في الإنسان، لا إمكان لاستمراره في الوجود من دونها، ولا طاقة لتحرّكه بلاها! على هذا كان تجاهل الله موقفَ عمًى إراديًّا، كَمَن يُغمض عينيه ويقول: لا سماء! وعلى هذا كان الإلحادُ نحرًا لله، ومن ثمّ نحرًا للذّات! هذا يحدث في مستوى الرّوح والحقّ، في مستوى اللاّمنظور، لكنّنا نختبره على نحو منظور. الإنسان، تحديدًا، حقيقة لا منظورة تتجلّى في المنظورات! لكن النّاس قد يعتادون ما في آفاقهم الدّاخليّة، ويُقنعون أنفسَهم بأنّ الفراغ الّذي فيهم هو الملء عينُه لأنّهم لا يعرفون، ظواهريًّا، إلاّه! ذروة الغباء، في هذه الحال، أن يحسب المرء نفسَه مستوطنًا ملءَ الحكمة ويزهو بذاته. وفي ذلك صفوة الفكر العدميّ والعناد الشّيطانيّ المستألِه تعدّيًا!
ثانيًا، إذا ما كان الإنسان مفطورًا على طلب الله، فإمّا أن يعرف الله كما هو، وإمّا أن يختلق صورًا كيانيّة عنه كما يشتهي، يُسقطها عليه، ويُقنع نفسَه بأنّ ما اختلقه هو إيّاه، بالذّات، مَن بثّ فيه الحياة! الخالق، في الوجدان، يستحيل مختلَقًا والمخلوق خالقًا! الحياد، في هذا السّياق، لا مطرح له! الله حاجة إمّا تقبلها وإمّا تختلقها، لكنّك لا تستطيع أن تستمرّ من دونها! إمّا تقيم في الحقّ أو تقيم في الباطل!
لا خلطة للأمرَين! هنا بالذّات تدخل الوثنيّة في الصّورة. الوثنيّة هي أن تتعاطى أهواءك كإله وآلهة. أن تُسبغ عليها صفة الألوهة. أن تجعل نفسك خادمًا لها. أن تعبدها! العبادة، في حيِّز الوثنيّات، هي أن تستعبد ذاتك لهوى وأهواء في نفسك حاسبًا أنّك إن فعلتَ ذلك صرتَ مثل الله، فيما يلتوي، حتى الانحراف الكامل والعدم، وبإرادتك، لا فقط ما فيك من سمات الألوهة، بل ما فيك من سمات الإنسانيّة أيضًا. تستحيل، إذ ذاك، مِسخًا، إنسانًا مشوَّهًا، لا إنسانًا! هذا، بعينه، هو عالم السّقوط! السّقوط هو أن تنحدر من الأعلى إلى الأدنى، من الكينونة الإلهيّة إلى شبه التّشيؤ العدميّ. وسقوط الإنسان، فيك، أن تنحدر من الإنسان إلى اللاإنسان بحثًا عن تصوّر مُختلَق عن الإنسان! الطّامة الكبرى أن يتعطّل الحسّ الكيانيّ الإلهيّ العميق فيك! كلّ إنسان مائل إلى مثل هذا السّقوط الكيانيّ! والخلاص هو أن يخرج من الوهم إلى الحقيقة، أن يتوب إلى ما سقط منه، أن يؤمن إيمانًا فاعلاً بالمحبّة! لا همَّ الشّكلُ الّذي تعبِّر به عن وثنيّاتك! الهمّ هو في الأسلوب، في الرّوح الّتي تتعاطى ذاتك والعالم. الصّنم ليس لا في الحجر ولا في الفكر ولا في الشّعار! الصّنم في كيفيّة، في روحيّة تعاطيك الوجود وما بين يديك صنميًّا! هذا ما يجعلك عابدَ وثن أو عابدًا لله!
ثالثًا، لم يُمْسِك اللهُ نفسَه عن الإنسان، في كلّ حال، في التّاريخ. كان، أبدًا، منعطِفًا صوبه. المشكلة لم تكن، البتّة، أنّ الله لم يتكلَّم. المشكلة كانت أنّ الإنسان لم يشأ أن يسمع ولا أن يبصر ولا أن يفهم ولا أن يتعاطى الكشف الإلهيّ إلهيًّا. قلبُه استبان نجسًا، ملتويًا! الموضوع موضوع قلب! لم يَعُد إلى ربّه! قلبُه أضحى مُغرِقًا في وثنيّاته، وإلاّ كيف كان يمكن اليهودَ، الزّاعمين الغيرةَ على الله وكلمة الله وبيت الله، أن يقتلوا الله باسم الله! ثمّة خلل دخل في النّفس وذاع وانتشر وجرى توارثُه! هذا تعبّر عنه، عندنا، أساسًا، رواية آدم وحوّاء والحيّة في سِفر التّكوين!
غير أن الله لم يترك نفسه، لمحبّته، بلا شاهد في كلّ أمّة! ثمّ بعدما كلَّم الآباء بالأنبياء قديمًا، بأنواع وطرق كثيرة، كلَّمنا، في هذه الأيّام الأخيرة، في ابنه الّذي جعله وارثًا لكلّ شيء، الّذي به أيضًا عمل العالمين (عبرانيّين 1: 1 – 2). كلّ هذا لم يكن كافيًا! المشكلة ليست في الكتاب بل في المسافة بين الكتاب مخطوطًا على صحائف ورقيّة، أو منطوقًا به، والكتاب منحوتًا في قلوب لحميّة! الإيمان الحيّ ليس في الكتاب بل في أن تأكل الكتاب. الكتاب طاقة إيمان! الحياة ليست في الطّعام بل في أن تتناول الطّعام! “كُلْ هذا الدَّرجَ”، قال الرّبّ لحزقيال (حزقيال 3: 1)!
لا يكفي أن تقول بالتّوحيد! الله، في كلّ حال، لا يُعَدّ لأنّه لا يُحَدّ! الرّومان، قديمًا، أحصوا ثلاثين ألف إله! ما قيمة قولك بالتّوحيد إن كنت عابدًا لنفسك؟ كلّ هوى من أهوائك، إذ ذاك، يا عبدُ، يصير إلهًا لك! الصّنميّة ليست في الخارج بل في القلب أوّلاً! الخارج تعبير! وكذا التّوحيد! لذا أن توحِّد ربّك معناه أن تعبده من كلّ القلب ومن كلّ النّفس ومن كلّ القدرة! ما أُعطِيتْ لك كلمةُ الله إلاّ لتصير إيّاها! أتفتخر بصحائف ورقيّة، بكلام في الهواء؟! الكلمة قَبَسٌ من حبّ الله، لا شكّ في ذلك! غير أنّ فخرك هو في أن تصير هذا القبس! الكلمة صار جسدًا لأنّ الكلمة، منذ البدء، كانت إلينا جسدًا لمحبّة الله! كلّ كَشْفٍ إلهيّ كان ضربًا من التّجسّد، أبدًا، إلى أن اتّخذ الكلمةُ لحمَنا! لذا ذروة الوثنيّة أن يكتفي المؤمنون بالانتساب إلى الكتاب ويطمئنّوا، قولاً، إلى كلام التّوحيد، لا أن يقتنوا روح الله ليصيروا همُ الكتابَ حيًّا، مفتوحًا، شهادة للعالمين! الله لا ننتسب إليه بما يكشفه لنا من ذاته، بل بما نتّخذه نحن، بالرّوح والحقّ، منه! إذ ذاك نجيء منه!
على هذا، لا يأتينا الله بمنطق كمنطقنا. أفكاري ليست كأفكاركم، وطرقي ليست كطرقكم، قال في إشعياء النّبيّ. في هذا المستوى، تتمثّل الوجوديّة الوثنيّة وتفرق عن الوجوديّة الإلهيّة. إن اتّخذتَ ربّك داعمًا لفكرك وهواك ومشيئتك، تعاطيته وثنًا، مهما تنطّحت في ادّعائك الولاء له! ما لم تكن مستعِدًّا، بعنف الإيمان والتّصميم، أن تتخلّى عمّا لك التماس فكره وهواه ومشيئته، “لتكن مشيئتك”؛ ما لم تكن مستعدًّا لأن تقبل برضى، لا بل بشكر، كلَّ ما يأتي عليك، كلّ ما يشاؤه الرّبّ الإله لك ويسمح به عليك؛ ما لم تكن مستعدًّا لأن تتمسّك بالرّجاء به فوق كلّ أمل بأمور دنياك؛ ما لم تكن مستعدًّا لأن تفكِّر كذلك وتسلك كذلك وتثبت على ذلك إلى المنتهى، فعبثًا تحاول التماس القربى من ربّك. ما تظنّه، في شأنه، وما تعتقده، بغير ذلك، وهمًا يكون وكذبًا!
ليست عبادة الله أن تقدّم له المال والعطايا والتّسبيح والبخور – على ما في التّسبيح والبخور من طاقة بركات – ليعينك في أشغالك وصحّتك وطموحاتك. للرّبّ الأرض بكمالها، المسكونة وكلّ السّاكنين فيها! هذا تعاط وثنيّ مع الله. لا تجعلْه خادمًا لك! لا تتصرّفن كأنّك ترشوه، كما كان عبّاد الأصنام يفعلون قديمًا. شغلك، في عينه، كلّ يوم، أن تُسلِم نفسك بين يديه، أن تَقبل وتشكر على كلّ شيء. قد تربح وقد تخسر في دنياك. هذا لا قيمة له عند ربّك. لا تنسبنّ ما تحصّله من مكاسب لعون ربِّك لك. هذا باطل وادّعاء! أرباحك قد تكون لك تجارب وفخاخًا! العبرة في المكاسب الرّوحيّة! كِلا الرّبح والخسارة، في مساعيك في دهرك، مجالات، عند ربّك، وحسب، لكسب النّعمة، إن تمسّكت بالأمانة، وسلكت بالمحبّة ورحمت ورأفت وسامحت وتدرّعت بالصّبر ولزمت السّماح. يخدعونك فلا تَخدَع أحدًا؛ يسرقونك فلا تسرق شيئًا؛ يظلمونك فلا تظلم مخلوقًا؛ يسخِّرونك لمراميهم فلا تسخِّر أحدًا؛ يَسخرون منك ويلعنونك فلا تسخر من أحد منهم وتبارك عليهم؛ يظلمونك فلا تظلم ولو كان في طاقة يدك؛ تعي أبدًا أنّك تغلب بوداعة الحمام والخراف لا بانقضاض الصّقور والذّئاب!
إذ ذاك تحقّق مكاسب حقّانيّة. تربَح لا السّماء وحدها، بل السّماء والأرض معًا، لأنّ مَن سُرَّ أن يعطيك الملكوت سرّ أن يعطيك، علاوة، على الأرض أيضًا، كلّ ما تحتاج إليه، من غير طلب، عربونَ عنايته الدّائمة بك! لا تخف إن جعت على الأرض لأنّ نعمة ربّك تملأك شبعًا، حتّى في الجسد، وعلى أملى ممّا تتصوّر وتتوقّع! تعتلّ صحّتك؟ ما همّ! ربّك يشفيك إلى عافية تدوم! تخسر هنا، يضربونك، يضطّهدونك، يقسون عليك؟ لا بأس! هذه كلّها جعلها ربّك أقنية بركات! البركات الحقّ ليست في خيرات هذه الدّنيا، بل في أن يتاح لك أن تجوع من أجل ربّك ولا تخور؛ أن تُضطهَد وأنت مقيم على الأمانة قدّامه؛ أن تتألّم؛ أن تتضايق؛ أن تُحسَب كأنّك نكرة؛ أن تُستَغَلّ، وأنت ثابت عبدًا لربّك ولا تفشل! غير ناظر إلى الأشياء الّتي تُرى، بل إلى الّتي لا تُرى، لأنّ الّتي تُرى وقتيّة، وأمّا الّتي لا تُرى فأبديّة (2 كورنثوس 4)!
بمثل هذا السّلوك تعبد ربّك روحيًّا وتحقّق مكاسب لا بغيره! الله روح والّذين يسجدون له فبالرّوح والحقّ ينبغي أن يسجدوا! فقط إن كفرتَ بنفسك كلّ يوم أمكنك أن تثبت على الأمانة إلى المنتهى وعبدت ربَّك!