نهار العنصرة، ينشد المؤمنين الترتيلة التالية:
“مبارك أنت أيها المسيح إلهنا
يا من أظهرت الصيادين غزيري الحكمة،
إذ سكبت عليهم الروح القدس.
وبهم المسكونة اقتنصت يا محب البشر المجد لك”
الأيقونة تبرز هذه العناصر الثلاثة: الرسول – الصياد، المسكونة الممثلة بالشيخ المتوج، والروح القدس بشكل الألسنة النارية. المعلوم أن أغلبية التلاميذ كانوا يلقون الشباك في بحيرة طبريا في الجليل، حيث دعاهم يسوع. وأما السيد فأراد أن يجعلهم صيادي بشر، لماذا اختار تلك الصورة لرسله؟ في الواقع يتحلى الصياد أينما كان بشخصية مميزة. الصيد هاجسه ولايقف أمام صعوبة من أجل تحقيقه، يستيقظ مع الفجر ويسهر الليالي ليصطاد سمكة. وكأن بالسيد أراد لتلاميذه هذه النفسية الشجاعة المثابرة المهتمة بانتشال البشر من لجة الخطيئة إلى الحياة الأبدية، بحيوية، وصبر، ومواظبة. والصياد عادة من عامة الشعب: لاعلم ولاثقافة! ولكن حكمة فطرية غريزية.
وهنا تبرز المفارقة، فالصياد بفعل الروح القدس يصبح غزير الحكمة والمعرفة. ولكي نفهم فعل الروح القدس في الإنسان لنقارن بين شخصية بطرس قبل العنصرة وبعدها! بطرس كان يخاف، يتردد، يهرب من الخطر، يشك، ينكر، يتسرع، أراد أن يستقر في برهة الأبدية يوم التجلي، أما بعد العنصرة فيبرز كرجل قوي، واثق من نفسه شديد البلاغة والمنطق، يستنجد بالكتب وبالراهين، يشفي المرضى، يقيم غزاله من الموت في لدة (أعمال 36:9-43) أدت به شجاعته إلى الشهادة! الشهادة من أجل المسيح الذي أنكره…
تقول الطروبارية: “إذ سكبت عليهم الروح القدس”. والانسكاب يعني أن ينصب سائل من وعاء فيملأه ويأخذ شكله. وهنا تبرز فكرة الماء في فهم الروح القدس الذي هو فيض كما شرح يسوع للمرأة السامرية. نرى في الأيقونة الألسنة وكأنها تمطر على التلاميذ، والمسيح استعمل كلمة “ينابيع”. والروح القدس ينبثق من الآب والانبثاق يعطي فكرة تدفق الماء الذي يزيل سده ليفيض بغزارة. في الروح القدس نلمح صورة تفجر. الروح القدس كرم وسخاء، عطاء بلا حساب، يملأ الكل، ينسكب على التلاميذ معزيّاً ثانياً، لأن المعزي الأول وهو المسيح كان قد فارقهم، عند الفراق نقدر قوة المحبة! المسيح أعلن أنه “الطريق والحق والحياة”. أما الروح الذي يغمرهم الآن فهو روح الحق، ولكنه يهُبُّ حيث يشاء، لايصمم لنفسه منهجاً ولايخطط! لا يعرف للاعتدال معنى، ولئن ينتظم مع الآب والأبن، فيبث الحياة حيث يمر، من حرارته، انتقل العالم من العدم إلى الوجود! إنه صاحب المعجزات، منطق البشر المحدود لايستطيع أن يسعه: يظلل عذراء، فتلد ابناً، ينسكب على التلاميذ فتولد الكنيسة، أينما يحلّ يحول الحجر إلى لحم. يفتح الأذهان فتفهم الكتب، يكسر قالب الناموس، فيسجل ناموساً آخر في قلوب البشر، يسجل كلمتين هما محبة وعطاء. لايطلب إلا الإنفتاح، إنفتاح القلب، فينحدر بقوة وسخاء، ويزلزل الكائن بأعماقه. وأما عطاؤه فليس له حدود، إنه رمز للأبدية إنه الماء والنار إذا اجتمعا! فيض الماء مصطحب بحرارة النار. إنه اجتماع الماء بالنار إذا استطعت أن تتخيلهما معاً شرط ألا يطفئ الأول الثانية! لايعرف حدود الزمان والمكان، به يزول الماضي والحاضر والمستقبل ليصبح في حاضرية الأزلية “كان دائماً وكائن وسيكون”. تنشد الكنيسة يوم العنصرة. الروح القدس يبعث الحياة الأبدية، فهو الذي يؤله الإنسان ويجعله مشابهاً لسيده، هو الذي يجعل الكلمة التي أعطاها الله الآب بابنه الوحيد فعّالة فينا. يعطي المواهب، ويوزع الطاقات لتقوي شخصية كل فرد، فتتحد فيما بعد بسائر أفراد الكنيسة مكوّنة جسد المسيح الكوني. بفضله يستوعب الثالوث لأنه مصدر الإلهام…
يتكلم المسيح عن خطيئة ضد الروح القس. وليست هذه الخطيئة إلا الإنغلاق الداخلي أمام فيض الروح! إنها الخطيئة التي لاتغتفر، خطيئة الفريسيين الذين يريدون حصر عطاء الروح في جمودية الناموس! يريدون أن يحصروا العطاء السخي في أحرف، ومجتمع مغلق، محدود في شريعة. الشريعة مرحلة أرادوها دائمة فرفضوا الإنفتاح أمام هبوب عاصفة الروح!