يبدأ تاريخ الكنيسة بحدث العنصرة حين حلّ الروح القدس على التلاميذ الذين حملوا البشارة إلى كلّ المسكونة. وإذا شئنا الحديث عن الحقبة الأولى من هذا التاريخ نجد في كتب العهد الجديد مراجعنا الأساسيّة، فنحن نعتبر هذه الكتب المقدّسة وثائق تاريخيّة، لذلك نقول قبل البدء بقراءة الإنجيل في القدّاس: “في ذلك الزمان…”. لكنّ ثمّة تقاليد وصلتنا عن طرق أخرى وقد جمعها مؤرّخو الكنيسة الأوائل، أو وصلتنا عبر الكتب المنحولة التي، وإن تضمّنت بعض الوقائع التاريخيّة، لم تعتبرها الكنيسة كتُبًا قانونيّة تستمدّ منها تعاليمها وعقيدتها.
يعلن القدّيس بطرس الرسول على الملأ، في عظته الأولى يوم العنصرة، إيمان الكنيسة: “إنّ يسوع الناصريّ، ذاك الرجل الذي أيّده الله لديكم بما أجرى عن يده بينكم… قتلتموه، إذ علّقتموه على خشبة بأيدي الكافرين، قد أقامه الله… ونحن بأجمعنا شهود على ذلك. فلمّا رفعه الله بيمينه، نال من الآب الروح القدس الموعود به فأفاضه” (أعمال الرسل ٢: ٢٢-٣٦). وللوقت اعتمد ثلاثة آلاف نفس من اليهود المجتمعين آنذاك لمناسبة العيد. وقد ظلّوا يعيشون عيشة اليهود الأتقياء، يصلّون في الهيكل، يخضعون لشريعة المآكل المحرّمة، يمارسون الختان…
أمّا ما كان يميّـز المسيـحيّيـن الأوّلـيـن عـن اليهود فهو المعموديّة، ومواظبتهم على تلقّي تعاليم الربّ يسوع، وكسْر الخبز، والشركة الكاملة. وفي هذا السياق يقول سفر أعمال الرسل: “وجميع الذين آمنوا كانوا معًا، وكان عندهم كلّ شيء مشتركًا. والأملاك والمقتنيات كانوا يبيعونها ويقسمونها بين الجميع، كما يكون لكلّ واحد احتياج. وكانوا كلّ يوم يواظبون في الهيكل بنفس واحدة. وإذ هم يكسرون الخبز في البيوت، كانوا يتناولون الطعام بابتهاج وبساطة قلب، مسبّحين الله، ولهم نعمة لدى جميع الشعب. وكان الربّ كلّ يوم يضمّ إلى الكنيسة الذين يخلُصون” (٢: ٤٤-٤٧).
منذ نشأة الكنيسة انضمّ إليها يهود ذوو ثقافة يونانيّة، هم الهلّينيّون. وبدأت المشاكل بين الجماعتين الناطقتين بالآراميّة (اللغة السائدة في فلسطين) وباليونانيّة. وفي حين كان الاثنا عشر مسؤولين عن الجماعات القاطنة في فلسطين، تمّ انتخاب سبعة رجال (شمامسة) يونانيّين كُلّفوا بالمسؤوليّة عن خدمة مواطنيهم (أعمال: ٦: ١-٨). وبعد استشهاد القدّيس إسطفانوس، أحد السبعة الشمامسة، هرب الهلّينيّون المضطهَدون من أورشليم إلى السامرة وسواحل البحر المتوسّط وأنطاكية حيث دُعي التلاميذُ “مسيحيّين” أوّلاً (أعمال ١١: ٢٦)، وأصبحوا مرسَلين لدى اليهود الساكنين هناك. وصارت أنطاكية نقطة الانطلاق لتبشير الإمبراطوريّة الرومانيّة.
تفاقمت المشاكل ما بين المسيحيّين من أصل يهوديّ والمسيحيّين الآتين من الأمم في شأن الشريعة اليهوديّة. غير أنّ هذا الوضع لم يستمرّ طويلاً، فوقع الطلاق بين اليهوديّة والمسيحيّة الناشئة. كانت جماعة أورشليم تظنّ أنّه ينبغي فرض الختان على المسيحيّين الجدد، وكان في أنطاكية جماعتان: جماعة المسيحيّين من أصل يهوديّ، المحافظين على الممارسات اليهوديّة ومنها الختان، وجماعة المسيحيّين من أصل يونانيّ. فكان يصعب على الفئتين أن تتناولا الطعام معًا بسبب القوانين اليهوديّة المتعلّقة بالأطعمة: أكل لحم الخنزير محرّمًا، كذلك الدم وبعض طرق تهيئة الطعام… القدّيس بطرس كان متردّدًا، فهو يقبل استقبال الوثنيّين في الكنيسة من دون شروط، لكنّه كان يخشى يهود أورشليم فانقطع عن تناول الطعام مع اليونانيّين. وبولس الرسول لم يتوانَ عن لومه وتوبيخه على هذا التصرّف (غلاطيـة ٢: ١١-٢١). يجدر التنـويـه إلى أنّ بطـرس رأى الروح يحلّ على كرنيليوس قائد المائة الذي لم يكن يهوديًّا، فقبله في المعموديّة وسلّم بأنّ المرور باليهوديّة ليس ضروريًّا للإيمان (أعمال ١٠).
يتداعى الرسل إلى الاجتماع في أورشليم للتداول في إيجاد حلّ للمشاكل الطارئة، بحضور يعقوب رئيس جماعة أورشليم وبولس وبطرس. قرّر المجتمعون بلسان يعقوب أنّ الشرائع اليهوديّة لن تُفرض بعد اليوم: “لذلك أنا أرى ألا يُثقل على الراجعين إلى الله من الأمم، بل يُرسل إليهم أن يمتنعوا عن نجاسات الأصنام، والزنا، والمخنوق، والدم” (أعمال ١٥: ١٩-٢٠). هكذا انقطع الرباط ما بين الإيمان المسيحيّ والشرائع اليهوديّة، وبات المسيحيّون غير مجبرين بتبنّي تعاليم اليهوديّة كي ينالوا المعموديّة ويتبّعوا الإنجيل. هكذا أصبحت الكنيسة فعلاً عالميّة تقبل الآتين إليها إلى أيّ حضارة أو ثقافة أو بلد انتموا.
مع القدّيس بولس تبدأ الكنيسة انتشارها الواسع، ففي رحلاته الأربع بشّر في أنطاكية وفي آسيا الصغرى، وأدخل الإيمان إلى أوروبا، وأسّس كنائس في مقدونية وفيلبّي وتسالونيكي وكورنثس وأثينا… ثمّ وصل إلى رومية، عاصمة الإمبراطوريّة، أسيرًا بعد سفر شاقّ، وطوال سنتين من الحرّيّة المقيّدة توصّل إلى إعلان ملكوت الله وتعليم ما يختصّ بالربّ يسوع المسيح بكلّ ثقة. وفي رومية استُشهد الرسولان بطرس وبولس، هامتا الرسل، وفي ذلك يقول المؤرّخ الكنسيّ إفسافيوس القيصريّ (+٣٤٠): “يروى أنّه، في عهد نيرون، قُطع رأس بولس في رومية، وهناك أيضًا صُلب بطرس. يؤكّد هذه الرواية اسما بطرس وبولس الملازمان مدافن هذه المدينة”.