الله بعدما كلّم الآباء بالأنبياء قديماً بأنواع وطرق كثيرة كلّمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه..” (عبرانيين 1 : 1 – 2)
وكلام الابن نعرفه بالروح القدس، الذي يعطينا فهم تقليد الكنيسة المكتوب (الكتاب المقدس)، والشفهي ( شهادة حياة الكنيسة)
… نورد فيما يلي أسبوعياً قبساتٍ من تجليات الرب في رعاياه الدمشقية (في أبرشية دمشق)، تعكسها لنا شهاداتٌ وعظاتٌ لآبائنا خدام الكلمة، الكارزين بالقائم من الموت لأجل خلاص العالم
عظة هذا الأسبوع لقدس الأرشمندريت يوحنا التلي
أحد العنصرة (يو37:7-52و12:8).
الحصاد الروحي
تدابير يسوع الخلاصية تأخذ شكلها واسمها في بعض الأحيان من أحداثٍ سبق أن كان لله دورٌ فيها مع الشعب القديم. لكن يسوع يملأ الحدث القديم بحدثٍ إلهيٍ جديد، ينسى فيه المسيحي أن هناك اسماً آخراً لعيدٍ مرتبطٍ به. وكما كان المر مع عيد الفصح، كذلك هو اليوم مع العنصرة.
والعنصرة كلمةٌ عبريةٌ أصيلة، أي أنها ليست سريانية أو آرامية. وتستعمل حتى اليوم بحسب لفظة (عَسَار)، ومنها (عَسَرين) أي العنصرة. وتفيد معناها (اجتمع) بمعنى (جمع)، وتدل أيضاً على معنى (امتنع)، دلالةً على امتناع العمل يوم هذا الاجتماع لأنه يومٌ مقدس.
أما عيد العنصرة عند اليهود فهو (عيد الأسابيع)، أو (عيد الحصاد)، أو (عيد الخمسين). واستعملت الكنيسة الكلمة الأخيرة لتدل على عيد حلول الروح القدس, لأنه يقع في اليوم الخمسين لقيامة المسيح.
وعلى الصعيد المسيحي فإن معنى العنصرة هو اجتماعٌ مقدسٌ يتم فيه حلول الروح القدس على الكنيسة بشخص التلاميذ ومن معهم مثل “السيدة العذراء” (أع14:1). ليبقى الاجتماع على الصعيد الكنسي مستمراً حتى المجيء الثاني. لذا فإن هذا العيد هو عيد الكنيسة, ليشمل بهذا البعد الكنسي المعمورة برمتها. وليعطي مدلولاًً على ولادةٍ جديدةٍ تمس طبيعة الإنسان، وتكون بمثابة خلقٍ جديد، مكمّلاً لما ذكره سفر التكوين عن خليقة الإنسان الأولى.
وهذا يعني أن الحدث الخلاصي الذي أتمه المسيح بموته وقيامته, يرتبط اليوم بعمل الروح القدس، الذي سيستعيد الإنسان به ما فقده يوم ولادته الأولى، أعني به صورته البهية التي تربطه بالله خالقه. إنه يستعيد به ذاته الضائعة, وهذه هي عنصرتنا المفرحة.
إن حلول الروح القدس على التلاميذ قد وقع بعد خمسين يوماً من أحد القيامة أعني بعد الفصح المجيد. لذلك فإن تسميته الرسمية بحسب أعمال الرسل هو “يوم الخمسين” (أع1:2), وهو ذاته عيد العنصرة المعروف أيضاً بعيد الأسابيع أو عيد الحصاد. وهو أحد الأعياد السنوية الثلاثة الكبرى عند اليهود، والتي هي (الفصح والخمسين أي العنصرة وعيد المظال)، والتي شكلت مناسباتٍ يتم الاحتفال فيها من أجل تجديد الالتزام بالله, علاوةً على أنها احتفال شكرٍ على حصاد المحاصيل.
ومع الرسل في يوم الخمسين نقف معهم وقفة حصادٍ جديد. كيف ذلك؟ كان اليهود يجتمعون في أورشليم من مختلف البلدان للاحتفال بهذا العيد، كما سبق واحتفلوا قبل خمسين يوماً بعيد الفصح، الذي خلاله تم صلب يسوع وموته وقيامته؟ أما الآن، وبعد حلول الروح القدس عليهم، يسجل لنا سفر أعمال الرسل عظةً لبطرس الرسول يلقيها على مسامع الجميع. هذا يعني أن رسالة المسيح كما أرادها يوم الصعود بآخر كلامه: “اذهبوا وتلّمذوا كل الأمم…وعلموهم ما أوصيتكم به..” (مت 19:28-20) قد تحققت. فمناسبة الخمسين بكونها عنصرةٌ هي تدبيرٌ إلهي, ليكون حلول الروح القدس يناسب تطلعات هذه الجموع الغفيرة الملتقية في أورشليم، والقادمة من أقطاب المسكونة لتشكيل مادة الحصاد الروحي. فبدلاً من أن يكون العيد عيد حصادٍ للحبوب حسب العهد القديم, يصير الإنسان – كمادةٍ بشريةٍ في المسيحية – هو الحصاد الروحي للعهد الجديد. فالمسيحية انطلقت من العنصرة لتكوِّن كنيسة الروح القدس، ولتبدأ شرارة بشارتها بمفاعيل الروح، لتثبيت هذه الولادة الجديدة المقرونة بصوتٍ ولغةٍ تفهمها البشرية بكلِّ لغاتها. إنها لغة الروح الواحد, روح الله داخل كلِّ مؤمنٍ متعطشٍ إلى لقائه.
يصف لنا لوقا الإنجيلي في سفر أعماله كيف تبين للتلاميذ أن الروح القدس أتاهم, معطياً لكلٍ منهم حضوره فيه بقوله: “ولما حضر يوم الخمسين كان الجميع معاً, بنفسٍ واحدة, وصار بغتةً من السماء, كما من هبوب ريحٍ عاصفة, فملأ البيت الذي كانوا جالسين فيه. ثم ظهرت لهم ألسنةٌ كأنها من نار, وقد توزعت وحلَّت على كلِّ واحدٍ منهم, فامتلئوا جميعاً من الروح القدس…” (أع1:2-4).
أتساءل أمامكم بعد تلاوة هذا المقطع المثير جداً: ترى هل عندما لا يكون أبناء الكنيسة معاً وبنفسٍ واحدة, فإن الروح القدس لا يأتيهم؟ هل نقص محبتنا لبعضنا البعض ينفي عنا استقبال الروح القدس؟ النص يوحي بأن وحدة الجماعة أساسية جداً، ليكون الروح القدس حاضراً فيها.
سؤالٌ آخر أطرحه معكم أيضاً: إذا استعدنا في ذاكرتنا بداية البشارة خاصةً، عندما كان التمهيد السابق عليها يقوم على تعاليم عن التوبة، يقدمها يوحنا المعمدان من خلال معمودية الماء، التي ترمز إلى الاغتسال من الخطايا. ألم يبشر يوحنا المعمدان بمعموديةٍ ثانيةٍ تحمل الأهمية الكبرى, التي يدخل فيه مع الماء عنصريْ الروح القدس والنار أيضاً (راجع لو16:3)؟ ثم يصفها بأنها آتيةٌ من الذي هو أعظم منه، ويقصد به يسوع المسيح. ألسنا نجدها في يوم الخمسين: ناراً إلهيةً مقدسةً مفعمةً بالروح القدس؟
إذن نحن مع بداية ولادة الكنيسة: تبدأ بتجسيد حياة الإيمان في استقبال الروح القدس, لتعطي كلّ مؤمنٍ يرغب بأن يلبس المسيح بكونه “يلبس قوةً من العلاء” (لو49:24) لينال القوة المطلوبة لعمل إرادة الله, عن طريق حلول الروح القدس على شكل ألسنةٍ نارية, ينال فيها المؤمنون قوةً يستطيعون أن يعملوا ما فعله بطرس الرسول عندما بشرّ معلناً للجميع بما يحمل من هذه القوة. ولكن ماذا أعلن بطرس للناس بعمله هذا؟ لقد نادى بقيامة الرب، وظهر كمن يحمل سلطاناً إلهياً يمنحه أن يقول ما قال!!. ولكن ماذا تعني الريح؟ إنها تعني ألسنة نارٍ أيضاً؟
هنالك صلةٌ لفظيةٌ بين كلمتي الريح والروح، لأن الكلمة واحدةٌ في اللغة اليونانية التي أتى عليها النص. أي أن الروح القدس هو كهبوبٍ الريح يشكل حركةً روحيةً متجهةً بقوة عاصفة لتملأنا. فتأتينا على شكل ريحٍ وتدخل إلى دواخلنا، وتستقر فينا على أنها روح. وهذا يذكرنا بموضوع الولادة الثانية، من حيث هي ولادةٌ روحية، وذلك في حديث المسيح مع نيقوديموس عندما قال له: “الريح تهب حيث تشاء, وتسمع صوتها. لكنك لا تعلم من أين تأتي, ولا إلى أين تذهب, هكذا كل من ولد من الروح” (يو8:3). كما أن هنالك أحداثاً كثيرةً نكتشف من خلالها علاقة الريح بالروح, لنستدل من ذلك كله على أن حضور الله في حياتنا مرتبطٌ بهذا (الريح العاصف), الذي بدأ بدوره كريحٍ في حلول الروح القدس يوم الخمسين, الذي ملأ الحاضرين والبيت. أي أنه كان روحاً يملأ الكيان كله, كما يملأ المكان والزمان. ومن غير الله يملأ كل هذا؟
وهكذا الأمر في المعمودية، فإن الروح القدس بعينه يملأ المكان، كنيسةٌ أو أي مكانٌ آخر. يقدس الماء, ويغمر قلب الإنسان في جسده وقلبه وأحاسيسه ومشاعره، ليبعد عنه كل مَا هو ليس مِن الله. وهذا ما أراد بولس أن بقوله لنا “إنما أقول: اسلكوا في الروح… إذا كنا نحيا بالروح فلنسلك أيضاً بالروح” (غل16:5+25).
أما الألسنة النارية التي حلت بكلِّ واحدٍ منهم، فإنها تذكرّنا بالآية التالية: “إلهنا نارٌ آكلة” (عب29:12)، وهذا ما كان في العليقة المشتعلة. فالنار تعبيرٌ عن حضور الله أيضاً، حيث تكون النار مقدسة و(غير محرقة). وبتعبيرٍ أدق أقول – وأنا آمل راجياً من الله – أن نكون مستحقين بفضل نعمته لتكون ناره الحالّة علينا (ناراً مؤلِّهة), تطهرنا وتنير أذهاننا إلى معرفة الحق، حسب قول السيد المسيح: “متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى كل الحق” (يو13:16), وهذا هو مطلبنا ونحن في أحد العنصرة اليوم، وقد أتانا الروح القدس مرشدنا فاستنرنا به, كنيستنا ونحن خُتمنا بعطاء الحب هذا, فالتهب القلب فينا بنار الروح وامتلأنا من لهيبه في حب الله وحب الإنسان، وحياةً مقرونةً بالبذل والعطاء. الروح أعطانا, فلنعط نحن بدورنا.
سبق للمسيح أن أعلن عن مجيءٍ للروح القدس مراتٍ متعددة، وأظهر لنا دور الروح في حياتنا عندما قال: “متى جاء المعزي الذي سأرسله أنا إليكم من الآب روح الحق الذي من الآب ينبثق, وهو يشهد لي” (يو6:15). أي أن المسيح كان في حياته الأرضية معزياً للجنس البشري. فأنبأنا أن هناك معزياً يحمل ذات جوهره، سيأتي شاهداً للمسيح، فننال به الطمأنينة ذاتها التي كانت لنا قبل صعوده, خاصةً وأنه شهد له مراتٍ متكررة قبل صعوده. ففي الميلاد المجيد, وفي سر العماد المقدس كان الروح القدس أيضاً. ولكنه مع العنصرة في اليوم الخمسين أتى: “ليمكث معنا إلى الأبد” (يو16:14). وبكونه مرسلاً من الآب يقول لنا المسيح عنه: “فإنه يعلِّمكم كلّ شيء, ويذكركم بكل ما قلته لكم” (يو26:14).
لقد كان الروح القدس منذ بداية الخلق موجوداً بين الناس, لكنه بعد يوم الخمسين صار ساكناً في الناس. وهم يتحركون روحياً به. منذ بدء انضمامهم إلى الكنيسة حين يتعمدون (باسم الآب والابن والروح القدس).
ومن المهم القول أنه عبر التاريخ الأول للمسيحية عندما تنكر البعض لألوهية الروح القدس، فإن مجمعاً مسكونياً انعقد عام 381م في القسطنطينية، وأقر ألوهيته مكمِّلاً دستور الإيمان النيقاوي بإضافة: “الرب المحيي المنبثق من الآب الذي هو مع الآب والابن مسجودٌ له وممجد, والناطق بالأنبياء. وبكنيسةٍ واحدةٍ جامعةٍ مقدسةٍ رسولية. وأعترف بمعموديةٍ واحدةٍ لمغفرة الخطايا. وأترجى قيامة الموتى, والحياة في الدهر الآتي, آمين”.
ونحن اليوم أبناء هذه الكنيسة الواحدة، التي لن تتزعزع لأن الله في وسطها بقوة الروح القدس، الذي يعينها ويحفظها لتبقى متصفة بهذا الروح على أنها جسد يسوع المسيح السري. هو الرأس ونحن الأعضاء.
ونعمته فلتصحبكم الآن ودائماً. آمين.
قدس الأرشمندريت يوحنا التلي