شيء جميل!

mjoa Monday June 24, 2013 133

قرأتُ خبر أسقف روسيّ اسمه فاسيلي رودزيانكو ففرحتُ به وقلتُ أُشاطركم بعضه للمنفعة. وُلد العام 1915 ورقد العام 1999. أبصر النّور في الرّوسيا، وأغمض عينيه إغماضته الأخيرة في واشنطن. تلقّى ثقافة مرموقة في صربيا. تزوّج فتاة ممتازة. سيم كاهنًا في الخامسة والعشرين. عانى معسكرات الاعتقال، لإيمانه بالمسيح، ثماني سنوات. انتقل إلى باريس. تتلمذ للقدّيس يوحنّا مكسيموفيتش. ثمّ إلى لندن حيث اتّخذ المتروبوليت أنطوني بلوم أبًا روحيًّا له. اهتمّ ببثّ البرامج الكنسيّة الأرثوذكسيّة، بالرّوسيّة، عبر إذاعة لندن (BBC). توفّيت زوجته. انصدم!

اشتدّ عليه الحزن. استسلم للشّرب. لا شيء ولا أحد نجح في إعادته عنه. أخيرًا ظهرت له زوجته في الحلم ووبّخته على سلوكه السّيّء! ارتدع!

أرادت السّلطة الكنسيّة تسقيفه. الأرمل قابلٌ، قانونيًّا، لأن يصير أسقفًا. واجه أزمة ضمير! الأسقفيّة، عند الرّوس، مقترنة بالنّذور الرّهبانيّة، والإسكيم الرّهبانيّ. عند البعض يأتي هذا شكلاً. عند صاحبنا لم يكن الأمر كذلك! قال فاسيلي للمتروبوليت أنطوني: نذر الفقر، أنا مستعدّ أن أسلك فيه، فغنى هذا العالم لا قيمة له عندي! ونذر العفّة، أيضًا، لأنّ زوجتي الرّاقدة ملأت، بالكامل، حيِّز المرأة في قلبي! أمّا نذر الطّاعة فلا أعرف، إن تسقَّفتُ، كيف أُحقّقه! أجابه أبوه الرّوحيّ: دونك قاعدة بسيطة، سِرّْ فيها تجدِ الجواب: طِعْ كلَّ مَن يسألك خدمة. أَلَمْ يُقَل: “أَطيعوا بعضكم بعضًا”؟ فقط إذا ما طلب أحدٌ منك ما هو مخالف للإنجيل امتنع! هذا يكفيك! لا تخف! فاقتبل الأب فاسيلي الكلمة وتسقَّف على واشنطن!

     مرّت السّنوات، ووُجد صاحبنا في الرّوسيا، زائرًا مشتاقًا، في أواخر الثّمانينات من القرن العشرين. مؤشّرات التّغيير في الفكر السّياسيّ، هناك، كانت قد بدأت تظهر. طبعًا، زار موطن منشئه كمواطن أميركيّ. ذات مرّة، خلال الزّيارة، قصده كاهن وطلب منه أن يأتي فيقيم الخدمة في رعيّته. أين؟ على بُعد مائتي كلم من موسكو، في قرية مغمورة! صدفة؟! كلاّ أبدًا! وافق للحال! وكيف لا! هذا أمر يدخل في نطاق إيفائه نذر طاعته! قَبِل بفرح لأنّه كان على “التياع” في محبّته للرّبّ يسوع المسيح! انطلقت السّيّارة إلى الكنيسة المنشودة. في الطّريق، بعد ساعات، وُجدا أمام حادث سير مؤلم وزحمة خانقة. نزل الأسقف فاسيلي ليرى ما هناك. سيّارة صدمت درّاجة ناريّة عليها أب وابنه. الأب مات للتوّ، والابن كان يبكيه! دنا الأسقف من الابن، وهو شاب، فسأله: أأبوك أرثوذكسيّ مؤمن؟ أجاب: أجل! وله أب روحيّ أيضًا! – “مَن تُراه يكون أباه الرّوحيّ”؟ سأله بصورة عفويّة. أجاب الشّاب: من سنين، كان أبي يُتابع برنامجًا كنسيًّا أرثوذكسيًّا عبر إذاعة لندن (BBC)، يقدّمه كاهن اسمه فلاديمير. فلاديمير كان اسم الأسقف فاسيلي عينه، يومذاك! ثمّ أردف الشّاب قائلاً: مذ ذاك، اتّخذ أبي ذاك الكاهن أبًا روحيًّا له وشرع يسلك، بأمانة، في ما يسمعه منه، ولو على بُعد، عبر الأثير! سبحان الله! أسقف يرسِلُه السّيِّد من لا مكان إلى لا مكان، ليوجَد، في لحظة، هو وحده عرفها ورتّبها، ليلتقي ابنًا روحيًّا، لم يسبق له أن التقاه في الجسد! للحال، قفز الأسقف إلى سيّارته وأخرج جعبة ثيابه الكهنوتيّة، وأخذ منها ما احتاج إليه ليصلِّي على ابن روحيّ، وسط قومٍ رعيّةٍ بدا كأنّ الرّبّ الإله شاءهم أن يجتمعوا في جنازة غير متوقّعة، بقارعة الطّريق!

     أتراها تكون أمرًا عَرَضًا؟! بل هو تدبير الله من الألف إلى الياء! عجيب الله في قدّيسيه وأعماله! هذه، بخاصّة، عجيبة الطّاعة! طاعة المحبّة، أو، بالأَولى، محبّة الطّاعة لله في كنيسته!

     الحادثة، في عمقها، تطرح لا شأنًا أسقفيًّا، ولا رهبانيًّا بحتًا، وحسب. الحادثة تطرح شأنًا من صُلب الحياة المسيحيّة الحقّ. لا نخالنّ النّذور للخاصّة بل لعامّة المؤمنين بالرّبّ يسوع. لا يفرق مؤمن عن مؤمن بنوع الفضيلة الّتي يلتزمها بل بدرجة إقباله عليها، وفق نمط المسار المجتمعيّ الّذي يعتمده. كما وصيّة المحبّة للجميع، كذلك كلّ فضيلة أخرى: التّواضع، الصّبر، العفّة… طبعًا، الفضيلة، بطبيعتها، كلِّيّة. لا أحد يحبّ نصف محبّة، أو يتّضع نصف اتّضاع، أو يصبر نصف صبر. لذا ليس أحد قويمٌ يُعفَى من أيّ منها، أو له أن يغضّ الطّرْف عنها. ولكنْ ما يُتوقَّع من المتزوِّج غير ما يُتوقَّع من الرّاهب. المتزوِّج له فرص لا حصر لها ليترجم محبّته الخالصة لله بين النّاس. هذا لا يُعفيه من الصّلاة، لا كفروض يملأ بها جُلَّ يومه؛ فطبيعة حياته لا تتيح له ذلك؛ هذا، بالحريّ، عمل الرّاهب أو النّاسك! المتزوِّج لا يُعفَى من الصّلاة، كصلة واعية خاشعة متواترة، تصله بربّه، حتّى العفويّة الكاملة، كمثل النَّفَس من الإنسان في جيئه وذهابه، في قعوده وقيامه، في نومه وصحوه. المحبّة، والحال هذه، لا تعوِّض عن الصّلاة بل تعزِّزها، وكذا الصّلاة تعزِّز المحبّة لديه. لا فعلُ الصّلاة بل حالةُ الصّلاة. لا طاقة لمَن في العالم أن يقضي ساعات طويلة في الصّلاة. عنده عمله ومسؤوليّاته. الرّاهب أو النّاسك صلاتُه غير ذلك. طبعًا، يدأب، مثله مثل مَن يحيون في العالم، من المؤمنين، فيها، كحال كيانيّة متواترة، ولكنّه يتفرّغ لها، جزئيًّا أو كلِّيًّا. غرضُه، بالأَولى، من هذا التفرّغ، إلى جانب التّملّؤ من حضرة ربّه، هو الصّلاة الملحاحة من أجل العالم! العالم قائم وثابت ومستمر بصلاة الرّهبان والنّسّاك، بخاصّة، وعامّة المؤمنين، بعامّة، من حيث يدري العالم أو لا يدري!

     في هذا السّياق، يتجلّى الأسقف، في وجدان الكنيسة، كأب يَحتَضن، كنموذج يُحتذَى، وكراع حريص! “أتحبّني؟ ارعَ خرافي!” لا المسألة، في المبدأ، مسألة تعليم ولا مسألة إدارة ولا مسألة طقوس، وإن كانت لخدمة الأسقف أوجُهٌ تعليميّة وإداريّة وطقوسيّة! المسألة، في العمق، مسألة أسقف يعطي دمًا ويأخذ روحًا ابتغاء إنشاء مَن أُوكلوا إليه على التماس حياةٍ جديدة تعطي دمًا لتأخذ رُوحًا! لا توقِدُ الشّمعةَ الخامدة إلاّ الشّمعةُ الملتهبة! ولا ينفخ الرّوحَ إلاّ مَن أقام فيه الرّوح!

     النّذور الثّلاثة: الفقر والعفّة والطّاعة، وثباتها الصّبر، للعامّة، وبخاصّة للأسقف، حتّى لا نتكلّم على الرّهبان والنّسّاك، أعمدةُ الحياة في المسيح. لا استقامة إيمان حيّ من دونها. يتراوح الفقر إلى الله بين قنية متاع الدّنيا واللاّقنية؟! لا همّ! ما يجعل الوضع، أيَّ وضعٍ، مزدانًا بالفقر أن لا يتعلَّق قلبُك بشيء، أي أن تعتمد، بالكامل، على عناية ربّك، وأن تجعل كلَّ ما يُسنَد إليك في خدمة ربّك! متى أضحى الغنى والفقر، في حسِّك العميق، سِيّان، واشتملك شوقُ الغنى بالله بالكامل، إذ ذاك تكون قد احتضنت الفقر بالرّوح والحقّ! فقيرًا وتغني كثيرين (بولس)!

     كذلك العفّة لا يحيا الإيمان من دونها ولا يكون فاعلاً. الإيمان حيّ وفاعل بالمحبّة، وبالمحبّة وحدها. لا محبّة من دون عفّة. حيث لا عفّة يسود الزّنى، والزّنى، في العمق، أن يحبّ المرءُ نفسَه، ونفسَه وحدها! ومتى اعتور الزّنى النّفسَ فلا محبّة لله وعبادة ممكنة. لذا كان الإيمان من دون عفّة معاقًا وميتًا!

     ثمّ الطّاعة تعطيك أن تَستخدِم، أن تستعبد نفسك، لربِّك، ومن ثمّ لعباده. هذا وحده يدنيك ممّن جاءك خادمًا لا مخدومًا، فكشف ذاته أن فيه يلتقي الملءُ وإفراغُ الذّات. هي طبيعة المحبّة الإلهيّة تفرض المعادلة! ما لم تُفرِغ ذاتك، بالطّاعة، من كلّ أناك ومن كلّ هواك ومن كلّ إرادتك، فلا بلوغ لك إلى محبّة ربّك من كلّ قلبك ومن كلّ نفسك ومن كلّ فكرك ومن كلّ قدرتك! من دون طاعةٍ لربّك، في ذاته وفي عباده، إيمانُك نظريّة، وتعليمُك لغوٌ، ومحبّتك عواطف ساقطة، وعبادتك طقوس وثنيّة!

     نتطلّع، أبدًا، إلى مَن يبثّ فينا الرّوح لنحيا، وإلى تعاطي مسيح الرّبّ حيًّا فيما بيننا، كان وكائنًا ويكون، حتّى لا يصير تبنُ الكلمة طعامَنا بل حبَّةُ الحنطة الّتي إن لم تقع في الأرض وتَمُت تبقَ وحدها!

     كلّ نفسٍ أمّارةٌ بروح الله لسانُ نار العنصرة!

 

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share