يعبّر تنامي الحركات الدينية المسلحة عن أزمة عميقة في مجتمعاتنا العربية كلها، وخصوصاً حين لا تستهدف هذه الحركات عدواً خارجياً، بل تستهدف شريكاً في الوطن، أو تستهدف إضعاف الدولة أو الاستيلاء عليها.
التكفير هو الباب الذي تدخل منه الجماعات المسلحة إلى تبرير أفعالها العنفية. فكل مَن لا يؤمن ويعتقد بما تؤمن به هذه الجماعات هو كافر، وكل دولة لا تتّبع الشريعة الإسلامية في دستورها وقوانينها دولة كافرة، وكل مَن يخدم هذه الدولة ويعمل فيها، من موظفين وقضاة وجيش وشرطة، هو كافر… والكفر، لدى هؤلاء، مؤدّاه استباحة الدماء.
ويذهب التكفيريون إلى حد الاعتقاد بأن كل مَن لا يتّبع شرع الله، وفق ما يفسرون ويتبعون، هو كافر خارج عن الأمة، وإنْ شهد الشهادتين وأقام الصلاة وآتى الزكاة وصام شهر رمضان وحجّ إلى بيت الله. ويستندون في ما يطلقونه من أحكام الى آيات قرآنية نزلت بالكفّار والمشركين، والى أحاديث نبوية بعضها ضعيف الإسناد.
هذا التكفير يعبّر عن أزمة في مفهوم الدولة في الفقه الإسلامي الذي وُضع في زمن كانت الدولة مختلفة فيه عن الدولة في زمننا الحاضر. فالدولة كانت خلافة إسلامية تضمّ جغرافياً البلاد الإسلامية كلها أو معظمها. أما نحن، فمنذ نحو قرن نحيا في إطار الدولة الوطنية أو القومية، وما كان يصلح في القديم لا يمكن بالضرورة أن ينجح اليوم.
لذلك، نرانا في حاجة إلى اجتهادات فقهية معاصرة تأخذ في الاعتبار المتغيّرات. وهنا يأتي دور المرجعيات الفقهية في استنباط فقه معاصر يواكب مقتضيات الدولة الحديثة التي نشأت في العالم العربي بعد زوال الدولة العثمانية وانتهاء الخلافة الإسلامية. وهذا يتطلّب إزالة التباسات عدة حول المفاهيم والمصطلحات المعرفية المستعملة، أو التي يمكن أن تُستعمل، في بعض الوثائق الإسلامية “الوسطية”. فتعبير “المواطنة”، على سبيل المثال، الذي يعني، ببساطة، المساواة في الحقوق والواجبات بين أفراد الدولة الواحدة، لا يمكن أن ينسجم مع دستور الدولة الدينية، لأن المساواة معدومة فيها.
كلامنا لا يعني دفاعاً عن الأنظمة العربية التي فشلت كلّها على اختلاف تسمياتها، منذ عهود الاستقلال، في إرساء الأسس الثابتة التي تقوم عليها الدولة الحديثة. فطغت الديكتاتوريات العسكرية تحت ستار العلمانية والعروبة وتحرير فلسطين… وصار الحكّام يشبهون أباطرة القرون الوسطى، ويتشبّهون بالآلهة في الأمر والنهي والهيمنة على كل مفاصل الشأن العام. لذلك يسعنا القول إننا لم نشهد، طوال القرن الماضي، دولاً مدنية حقيقية في عالمنا العربي، بل دولاً لا صفة محترمة لها.
الإنسان في حالة إشراك، في حالة عبودية لن ينقذه منها سوى إعادة الاعتبار إلى العقل الذي تمتدحه كل النصوص الدينية. فعوض العقل يعمّ الجهل والغوص في الغيبيات، وعوض صنع المستقبل تسود العودة إلى الماضي السحيق واستحضار النزاعات.
وإذا بقي الخطاب الديني، كما هو اليوم، تحريضياً واستنهاضياً في سبيل رفعة شأن الأديان أو المذاهب فسيفقد الإنسان أكثر فأكثر من إنسانيته التي خلقه الله عليها. ولن يكون من معنى حقيقي للأديان إذا لم يتحرّر الإنسان من عبادتها، وردّ العبادة لله وحده الذي لا شريك له.