الشهداء هم أعظم القدّيسين. هم أعظم من الأنبياء والرهبان والأبرار وكل أصناف القديسين. فشهادة الدم أقوى من شهادة الكلمة وشهادة الحياة. هم يعبرون إلى الحياة الأبدية بلا دينونة، لأنهم أحبوا الله وفضّلوا السكنى معه على مباهج هذه الدنيا، ومَن يحبّ الله لن يرى الموت.
هم أدركوا المعنى الحقيقي للآية الشريفة “الله محبة، ومَن يثبت في المحبة، يثبت في الله والله فيه” (رسالة القديس يوحنا الرسول الأولى 4، 16)، ومَن يثبت في الله، ومَن كان الله فيه، لن يموت. أدركوا أن مَن يكن سلاحه المحبة لن يجد الخوفُ طريقاً إليه، لأن “لا خوف في المحبة، بل المحبة الكاملة تطرح الخوف إلى خارج لأن الخوف له عذابٌ. وأمّا مَن خاف فلم يتكمّل في المحبة” (يوحنّا الأولى 4، 18). فلم يخافوا الموت في سبيل الشهادة لإيمانهم، لأنّهم كانت لهم “الثقة في يوم الدين”.
سير الشهداء تخبرنا أنهم اقتدوا بالمسيح المصلوب، وصدّقوا قوله “ثقوا، إنّي قد غلبت العالم”. غلب “العالم”، أي روح هذا العالم الخاضع للشرّ، بدمه الكريم. فالقديس إغناطيوس الأنطاكي (+107) يناشد أهل روما قائلاً: “دعوني لأقدَّم ذبيحة على مذبح الربّ”، والقديس أفبلس (+204) يصرخ في وجه جلاّده الذي يطلب منه أن يقدّم ذبائح للأوثان كي يعفو عنه ويبقيه حيّاً: “نعم، سوف أقدّم ذبيحة. ولكني سأقرّب نفسي أمام المسيح الإله، وليس عندي أي شيء آخر أقدّمه”…
الشهيد، في المسيحية، هو الذي يحتفل بالقدّاس مقدّماً جسده قرباناً حيّاً عوض الخبز والخمر. يتحوّل جسده جسد المسيح. يتحول جسده “الكنيسة” بكلّ ما تتضمّنه هذه الكلمة من معنى. ألم يشبّه القديس بولس الرسول الكنيسة بـ”جسد المسيح”؟ ألم يقل هو نفسه إنّ أجساد المؤمنين هياكل للروح القدس؟ لذلك كلّه نكرم رفاته كونها أضحت قرباناً مقدّساً.
ومن هنا يقول القانون السابع من المجمع المسكونيّ السابع (787) بناءً على تقليد قديم هو تشييد الكنائس على قبور الشهداء: “لتوضع بقايا الشهداء القدّيسين في الكنائس التي دشّنت من دونها. ومَن يكرّس كنيسة من دون شيء من بقايا الشهداء فليسقط”.
يجعل الرسول يوحنّا من محبّة الإنسان لأخيه الإنسان البرهان الحقيقيّ لمحبّة الإنسان لله، فيقول: “إنْ قال أحد إني أحبّ الله وأبغض أخاه، فهو كاذب. لأنّ مَن لا يحبّ أخاه الذي يبصره، كيف يقدر أن يحبّ الله الذي لم يبصره؟ ولنا هذه الوصيّة منه: إنّ مَن يحبّ الله يحبّ أخاه أيضاً” (الرسالة الأولى 4، 20-21). وهو نفسه يربط ما بين معرفة الله والمحبّة، فيقول: “مَن لا يحبّ لم يعرف الله، لأنّ الله محبّة” (الرسالة الأولى 4، 8).
الشهيد هو، إذاً، مَن يموت وقلبه مفعم بالحبّ، حبّ الله وحبّ أخيه الإنسان. ومَن يزعم أنّه يعرف الله وأحكامه، فيقتل ويستبيح باسمه تعالى هو واهم ومضلّل، وإنْ مات فهو ليس شهيداً ولا يمتّ إلى الشهادة بأيّ صلة.
حين همّ قايين (قابيل) بقتل أخيه هابيل، قال له هابيل: “لئن بسطت إليّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إنّي أخاف الله ربّ العالمين” (سورة المائدة، 28). مَن يحبّ الله أو يخافه، والأمر سيّان، لا يقتل أخاه الإنسان، بل يحبّه ويموت من أجله. حينذاك فقط يليق به لقب الشهيد.