الأبوّة الرّوحيّة

mjoa Monday July 8, 2013 113

يشوب فهمَ الكثيرين للأبوّة الرّوحيّة الالتباسُ والمغالطةُ. الكاهن يسمّونه أبًا روحيًّا، وكذلك المعرِّف. الرّاهب، إذا تردّد أحدٌ إليه أو حادثَه أو شاوره في أمر، قيل عنه أبًا روحيًّا لمَن قصدَه. وكذا يُعتبر الأسقف أبًا روحيًّا لمَن تسقّف عليهم. حتّى بين العامّة، صاحب المشورة يجعلونه، بيسر، في موقع الأب الرّوحيّ. وعلى هذا تتراوح الأبوّة الرّوحيّة، في الممارسة، بين الإسميّة الشّرفيّة والمكانيّة الكنسيّة والخدماتيّة الرّعائيّة. لا شكّ أنّنا، على ما نحن عليه، من مشرقيّة الوجدان، كثيرًا ما نقع، في تعاطي الشّأن المطروح، في التّفخيم المجوَّف!

     رهبانيًّا، الأبوّة الرّوحيّة واقع آخر. الرّهبان يتعاطون الطّاعة في المبدأ. لا رهبنة من دون طاعة. والمبدأ يجعل الطّاعة لله أوّلاً وأخيرًا. ليست الطّاعة لإنسان. المطيع يطيع اللهَ في مَن يطيعه. الواحد يطيع الآخر باعتباره علامة منظورة لحضور الله غير المنظور الّذي يطيعه. الطّاعة موجّهة، قطعًا، إلى الله وحده. ولأنّ همّنا هو أن نطيع الله، فإنّ الله يقتبل طاعتنا ويجاوبنا في مَن هو مولّى علينا، والمفترض أن يتبنّانا ويعمل، كبولس الرّسول، على إيلادنا في المسيح، ضمن ترتيب الشّركة الرّهبانيّة. الرّئيس، بالمعنى الصّارم للرّهبانيّة، ليس مساويًا للأب الرّوحيّ. الرّئاسة تأتي من تنظيم. الأبوّة الرّوحيّة تأتي من موقف عميق يقفه المطيع من ربّه ومن ثمّ من موقف الابن من أبيه! إذا ما كنّا لنكون دقيقين ومحقِّين لَمَا أسمينا الرّئيس، بيننا، أبًا، بالضّرورة، على شيوع التّسمية، بل “الأخ الرّئيس”! استعمالنا المشيّع والمعمّم للفظة “الأب” يجعل الأبوّة، أحيانًا، مميَّعة، ومعنى اللّفظة متآكلاً! إذا ما كان قد قيل: “لا تدعوا لكم أبًا على الأرض، لأنّ أباكم واحد الّذي في السّموات” (متّى 23: 9)، فما ذلك إلاّ لأنّ كلَّ أبوّة، على الأرض، تُستمدَد، في مضمونها، من فوق، وتُشكِّل إيقونة لأبوّة الآب لنا، كما تستند إلى بنوّتنا للآب! إذًا ليس القصدُ أنّه ليس آباءٌ بيننا على الأرض، بل ليس أحد يمكنه، ومن ثمّ يجوز أن يُدعى “أبًا”، بالمعنى الأصيل للكلمة، على الأرض، إلاّ إذا كانت أبوّته انعكاسًا، كما في مرآة، لأبوّة الآب لنا. هذا يجعل الآب واحدًا، والمنهل الّذي ننهل منه الأبوّة الحقّ واحدًا. بغير ذلك، كلّ أبوّة زيف وادّعاء وتعدّ على الله واختلاس لما هو له، وله وحده، وتعلّق بشريّ!

     إذًا نطيع الله ولا نطيع إلاّه. كلمته وحدها هي الّتي نسلك فيها بثقة وتسليم كاملَين، ما يجعل الأبوّة، وطبعًا الأمومة* أيضًا، لدينا، مستنِدةً إلى بنوّتنا الّتي نتعاطاها، بكلّيّة الموقف الدّاخليّ، بالرّوح والحقّ، في تعاملنا مع الله! إذا لم تكن مثل هذه البنوّة موفورة ما أمكن أن تكون الأبوّة الحقّ ميسورة! تمسي إسميّة، شكليّة، مُفرغَة من مضمونها! إذا ما كان وجه الله، ووجه الله وحده، ما نلتمس، فوصيّته وحدها هي ما نلتزم! هكذا نتمثّل الإيمانَ أنّ أبانا واحد الّذي في السّموات!

     طبعًا، سهلٌ، أبدًا، أن يدّعي أحدٌ أنّه يطيع الله وحده، وأنّ الله وحده أبوه، ولا إنسانٌ أبًا له. بكلام آخر، سهلٌ أن يدّعي إقامة علاقة مباشرة مع الله من دون العبور بإنسان. مثل هذا طاعتُه وهمٌ وادّعاء. نحن بشر، إذًا نطيع الله في البشر! المدى القاعديّ هو أن يطيع أحدنا الآخر. أطيعوا بعضكم بعضًا. أن نطيع الجميع ونتبنّاهم. أي أن نهتمّ بطاعة الله في كلّ إنسان. نطيعه بمعنى أن نكون مستعدّين لأن نحبّه، لأن نحبّ الله، وبمعنى أن نكون مستعدّين لأن نتلقّى كلمته – كلمة الله – في كلّ إنسان. الله ليس محصورًا في أحد. يمكن أن يكلّمك بهذا ويمكن أن يكلّمك بذاك، بغضّ النّظر عمّن يكون. أنت، فقط، تنتبه وتنمي وترهف حسّك بما من الله وله. هذا أساس علاقتنا أحدنا بالآخر. لا نحتقر أحدَنا ولا نستصغره. ولا ننسى، أبدًا، أنّ الحجر الّذي رذله البنّاؤون هو صار رأس الزّاوية!

     بالعودة من هذا المدى المعمَّم إلى الإطار الرّهبانيّ للأبوّة الرّوحيّة أقول إنّ مَن يقارب أحدًا كـ”أب روحيّ” لنفسه، فإنّه متى قاربه على هذا النّحو، أي متى اعتبره فمًا لله واقتبل كلامه وتعاطاه كَمِن فوق، فإنّ ما يقوله الأب الرّوحيّ لا يمكن، إذ ذاك، إلاّ أن يكون من فوق! لا يعود الأب الرّوحيّ قادرًا على أن يتكلّم من عنده! يتّخذه الله، واعيًا أو غير واع، كمثل هارون لموسى! هكذا يصير بإمكان أحدٍ أن يتأكّد أنّ ما يتفوّه به الأب الرّوحيّ هو من الله حقًّا! المقياس داخليّ مرتبط بالحال الجوّانيّة للابن الرّوحيّ!

قد يلاحظ الأب الرّوحيّ أنّ الله يتكلّم فيه وقد لا يلاحظ. وهو يلاحظ، متى كان على تواضع قلب، لا بل يدرك بحسّه العميق أنّ ما يقوله ليس منه! إذ ذاك تنتابه خشية وسلام عميق وفرح عارم مشوبٌ بوضوح بلّوريّ أنّ الله هو المتكلّم! فمتى حصل له ذلك، أمكنه أن يعرف أنّ هذا الّذي يوجِّه إليه الأبُ الرّوحيّ كلامَه يسمع بقلبه وأنّه ابن لله بالفعل! قد يكون الأب الرّوحيّ عارفًا وخبيرًا متمرِّسًا وقد لا يكون. سيّان، الله يمكن أن يتكلّم في هذا وفي ذاك! قد يكون كلامُه جميل الوَقع، عميقَ المضمون، في شكله ورنّته. قد يبدو كأنّه من فوق. ولكنْ، ما لم يكن الابن الرّوحيّ على الحال الّتي وَصفناها أعلاه، في تعامله مع ربّه، فلا يكون كلام “الأب الرّوحيّ” من الله بل منه هو! ومن ثمَّ لا ينفع في بنيان الابن، إن لم نقل قد يؤذي! الكلام الّذي يتفوّه به “الأب الرّوحيّ”، خارج السّياق والقصد الإلهيَّين، قد يزوِّد السّامع بأقوال نافعة، بالمعنى العامّ للكلمة، ولكنْ لا يكون، بالضّرورة، كلامًا بنّاء موجَّهًا للابن الرّوحيّ، بصورة شخصيّة، يوافق حالته وعلى قياس ما يحتاج إليه! لا يُعطِي اللهُ كطبيب مرضاه أدوية عموميّة، إن لم تنفع لا تضرّ؛ ما يعطيه الله، عبر الأب الرّوحيّ الحقّ، هو، تمامًا، ما يحتاج إليه الابن الرّوحيّ في الحال الّتي يُوجد فيها!

     ليس الله إله معلومات! يُمسك عن الكلام حين لا تكون من الكلام منفعة. ومتى تكلّم يُفترَض بالسّامع المتَبنّى ألاّ يدع كلمة واحدة تقال له تسقط أرضًا وتضيع وإلاّ يُطالَب. إلهنا إله صموت، لذا الابن الحقيقيّ يكون كلُّه أذنًا وكلّه عينًا لئلاّ يفوته شيء من كَشْفِ الله! لعلّ أكثر ما جرى التّعبير عن حرص الابن الرّوحيّ تجاه ربّه، في هذا السّياق، ما ورد في المزمور 118: “طوبى للّذين يبحثون عن شهاداته وبكلّ قلوبهم يطلبونه… يا ليت طرقي تُسدَّد إلى حفظ وصاياك… ما أشدّ ما أحببت ناموسك يا رب… ناموسك نبراس لرجليّ ونور لسبلي. حلفت وعقدت عزمي على حفظ أحكام عدلك… ورثت شهاداتك إلى الأبد لأنّها بهجة قلبي…”.

     على هذا، ليس لأحدٍ أبناءٌ روحيّون، بالمعنى الصّارم للكلمة، إلاّ في الإطار الرّهبانيّ لأنّ الأب والابن معًا يجعلان نفسيهما، طوعًا، في المناخ المبيَّن أعلاه. الأبناء الرّوحيّون، في كلّ حال، تعلّقُهم هو بربّهم، وبربِّهم وحده، في آبائهم! لا تعلّق، بعدُ، بلحم ودم! كلُّ أب روحيّ يوحنّا معمدانٌ في الرّوح، يَنْقُص ويتوارى، أبدًا، ليشير ويُسْلِم حِملان الله إلى حَمَل الله الرّافع، وحده، خطيئة العالم! أمّا الّذين هم خارج الإطار الرّهبانيّ فليس لهم آباء روحيّون، بالمعنى الدّقيق للكلمة، إلاّ بمقدار ما يتوسّمون، اقتداءً بالرّهبان، وجهَ ربّهم بأمانة كاملة، ووجهَ ربّهم وحده، في مَن يلجأون إليه ليستمددوا منه الكلمة الّتي من فوق!

ماذا يفعل الّذي يأخذ كلمة ممّن يتفوّه بها بعامّة؟ هذا شأنه وشأنه وحده! ليس أحد مُلزَمًا! خارج الطّاعة الرّهبانيّة، لا يَفرضُ أحدٌ على أحد شيئًا باسم ما يُتداول باعتباره “أبوّة روحيّة”؛ فقط يشير عليه! ثمّ كلٌّ يفعل، بعد ذلك، ما يمليه عليه ضميرُه! له أن يطيع ما يُقال له وله ألاّ يطيع! ولكنْ فقط بالطّاعة لله في الضّمير، يصير كلّ سامعٍ ابنًا لله، ويمسي كلٌّ مطيعًا للآخر في المسيح! بغير ذلك يحوم المرء حول الإلهيّات ولا يَحطّ الرَّحْلَ فيها! في بساطة القلب والتّقى جمالات وغنى، ولا شكّ، ولكنْ كم من التّقى وهْمٌ وادّعاء!

* في المسيح لا رجل ولا امرأة، لذا الأبوّة والأمومة يتداخلان ويتّحدان!

 

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share