كيف تكتب عن الحبيب؟ تقول: “أنا عبدك يا رب، عبدك أنا وابن أمتك” (مزمور 115: 7). ما كانوا مفتونين بالشعر الذين قالوا إن هذا عبودية. قولهم هذا لغتهم. عرفوا العشق الذي يفوق كلّ عشق عنيته الافتتان بالله. هذا لا يعطى إلاّ للذين كُتب لهم.
كان مؤرخو الفلسفة قاتلي اللغة عندما سلخوها عن قول الحب. العقل وحده ليس اللغة. هو أداة اللغة، التي هي قول المعنى والمعنى من التاريخ فاللغة، ما من شك في هذا، هي تعريب كلمة اللوغوس الأفلاطوني أو اليوحنائي ودليلي على ذلك عدم الاشتقاق للفظة اللغة من فعل ثلاثي.
والعربية قابلة لهذا التأويل وانعدام القول هذا عند علماء اللغة الأقدمين في انهم كانوا يجهلون اليونانية والسريانية ويكتفون بإسناد كل فكرة أو لفظة الى الجاهليّة ظنا منهم ان الخلق كله يأتي من جزيرة العرب ولكن بعد ان خرج العرب الى الشام. لم تبقَ العربيّة لغة الجزيرة وحدها. تمدينت وتقرأها الآن استنادا الى ما طرأ عليها في بلاد الشام فأضحت تكوينا جديدا. الجزيرة رحم فقط والولادة الحضارية تأتي من بعد ذلك. العربيّة ليست موحاة وما قال الإسلام بذلك. قال ان كتابا نزل بالعربيّة استخدمها الله لأداء وحيه. لم يجعل الاسلام العربيّة صنما اذ لم يعبد غير الله. مهما قدست العربية لا يقبل المؤمنون موقفا منها ينزل عليهم تهمة الشرك. آن الأوان لنرى الى العربيّة على انها لسان وان أحببنا البقاء في التاريخ فهي سابقة للإسلام وجاء بها وما جاءت به. ولم ينسب الإسلام اليها قدسية ولذلك انفتح المسلمون الأوائل على لغات عصرهم السريانية واليونانية والفارسية ولم يرتبكوا بكون العربية لفظة الوحي. يصنع التأريخ قدسيات لا يعرفها الأوائل القريبون من المصادر.
نحن الذين تمسكنا بالعربية التي كتبها امرؤ القيس والأخطل وسواهما من نصارى العرب وتجلّى فيها تلامذة الفارابي المسيحيون نبقى عليها وطوعناها في ترجمة الإنجيل. عرفنا ان نحافظ عليها في القرون الغابرة وجددناها بروحنا منذ عصر النهضة فصارت لغة جديدة لكل الناس. في الحقيقة العلميّة ليس من لغة دين ولذلك لا يفتخر عقلاء اللغة العربيّة على انهم يتقنون العربية من اسلامهم فقد غدا الإسلام حضارة لغوية لنا جميعا.
نحن نصارى العرب نستلذ اللغة كما يستلذها علماء المسلمين بصرف النظر عن حديث الهويات. كلنا عرب حضاريا ايا كان ادعاؤنا القومي. لست اعرف لغة علمانية مثل العربية. آن ان تبطل الاندماجات الوهمية القائمة على السياسة. والدليل في حياة المسيحيين البارعين في اللغة انهم يعرفون القرآن بقدر ما يعرفه مثقفو الاسلام وما تخيل يوما احد ان الكتاب المسلمين أبلغ منا في معرفة لغتنا المشتركة، خصوصاً ان ظاهرة بلادنا ان اللغويين المسيحيين ليسوا دون الآخرين درجة. فإن قرأت حافظ ابراهيم ولم تعرف أصله كيف تعرفه مسلما. وان قرأت ناصيف اليازجي وابنه ابراهيم كيف تعرف انهما مسيحيان جاءا الى كفرشيما من مرمريتا الأرثوذكسية ولم يفوقهما احد في عصرنا في قدرته على العربية. كفى ان تعيش في هذه البلاد على اسطورة التمايز الطائفي في هذا الباب.
هذا لا علاقة له بما يسمى اليوم القومية وهي مفهوم افرنجي استوردناه . أمي التي كانت تقول لي: “نحن أولاد عرب” ما قرأت شيئا في القوميات وما كانت قادرة. قبل الثورة الفرنسية في أوروبا المتمدنة كنت تقول انا فرنسي وتتميز عن جارك الألماني بلا بغض. عند الانسان المتحضر التمايز ثقافي ولا يحمل الحقد. ولما دعا ابراهيم اليازجي العرب الى ان يستفيقوا كان يعي انه مسيحي من كفرشيما وأصله من وادي النصارى وان كفرشيما ووادي النصارى واحد عند المسيحيين المستقيمي الرأي.
كل هذا الاختلاط بين القومية والدين الى مشارف القرن العشرين لم تعرفه الأذهان. عندما كانت أمي الأرثوذكسية تقول انها “ابنة عرب” كانت تعني انها ليست من الفرنجة وكانت تعني ان العروبة انتساب الى هذه الأرض وان ايمانها انتساب الى المسيح وما كانت تضع في عروبتها عنصرا ايديولوجيا. هذا كان يجيء عندها من أعماق تاريخية متصلة بالأصول المسيحية لهذه البلاد دون أدلجة أتتنا صيغها من الغرب.
ليس عندي شيء على الغرب. عشت فيه سنوات طويلة وذقته منذ طفولتي ولكني أعشق الكثير منه وأهذبه بما ورثت من هذا المشرق العظيم بكل ألوانه أو أنغامه. كنت احس نفسي مشرقيا في سنوات اقامتي في الغرب على تذوقي الكبير لأوروبا وهي ممتدة في شروشها التي أستطيب.
أنا مسيحي أرثوذكسي لغة صلاتي العربية الفصحى ليس فقط في الكنيسة ولكن اذا اختليت الى الله. في بعض حقبي كنت في الفرنسية أقوى ولكني في انفرادي ما كانت لغة صلاتي. لأن قلبي كان عربيا كنت أصلي بالعربية وما زلت ولا استعمل لغة اخرى الا اذا أقمت القداس الإلهي لأجانب. والصلوات التي كان يحق لي الا أتلوها جهارا فيما اقيمها في رعية اجنبية في اوروبا استظهرها صامتا في لغتي وليس في الكتاب الذي بين يدي.
هل هذا من إصراري على اني من حارة النصارى ام هذا مشاركة للمسلمين “لست أعلم الله يعلم”. اظن ان هذا الإلحاح مني مصدره ان كنيستي من هذه الأرض وانها غير مرتبطة بأرض غربة. انا لا أخلط القومية بصلاتي ولكني من هذه الأرض بلا عصبية ولا عنت. من ايماني انا سليل يوحنا الذهبي الفم والدمشقي وغيرهما حتى مجيء ربنا يسوع المسيح. هذه قوة المسيحية التراثية المحفوظة على نقاوتها انها تجعلك وريث العظام تقلدهم كما يقلد الجمال وتحفظهم بفهم وليس بمجرد استظهار.
ما لا يفهمه الذين غادروا الكنائس القديمة اننا على جدة ايماننا وحيويته نحس ان الكلمات القديمة تحفظنا لأنها أتتنا من الأقدمين الذين هبط الإلهام في ايامهم. نحن نحاول تجديد قلوبنا بالنعمة لا بكلمات من هذا العالم. قد نستحدث الألفاظ أو نتبنى صيغة التعابير الحديثة لنقل الرسالة ولكنا اشداء في الحرص على التراث اي على ما قاله الأقدمون الملهمون لأن هذا من الإخلاص. السؤال هو هل انت مع العمق أو مع الظاهر الحديث الذي يبدو جديدا ولكنه خيانة.
ما فهمته حركة شباب تجديديّة ان الجدّة ليست باللفظ الجديد ولكن بالنعمة الإلهية التي تنزل عليك. فالله جديد كما هو قديم والله لا يتحجر في قدم كما لا يتغير في جدة مخلصة. انه هو الجدة.
وهكذا نمضي الى ان يغير الله الوجود ويغيرنا بنعمته. كل شيء فانٍ الا وجهه. كلماتك ان كانت منه غير فانية. ان صار هو فيك وفي كل تحركك ما انت بجامد. وان تبعته وكنت فيه فأنت متحرك به أو فيه. بصورة من الصور انت تصيره واذا رأى الناس الى وجهك يرون مجد الله.