في ظلّ الدولة الرومانيّة، كان يكفي أن يعلن أحدهم أنّه مسيحيّ حتّى يُحكم عليه بالموت. فالإمبراطور طرايانُس كتب إلى أحد ولاته جوابًا عن كيفيّة التعامل مع المسيحيّين، فقال: “لا بدّ من الحكم على كلّ شخص يُتّهم بالوقوع في تلك الخرافة (يقصد بالخرافة الإيمان المسيحيّ) ويرفض أن ينكـرها وأن يقدّم الذبـائح للآلهـة”.
وبعد نحو عشر سنوات، جاء أمر الإمبراطور أدريانُس إلى والي آسية الصغرى يصبّ في الاتّجاه ذاته: “إنّ الاسم المسيحيّ يجعل من حامله مجرمًا”.
يدافع المسيحيّون عن أنفسهم بالقول إنّ الحُكم على المسيحيّين لمجرّد أنّهم مسيحيّون أمر غير عادل. فالقدّيس يوستينوس الشهيد (+١٦٥)، الفلسطينيّ الأصل، يقول في هذا السياق: “لا يكون الاسم في حدّ ذاته جيّدًا أو سيّئًا: بل يجب الحكم على الأعمال التي تُنسب إليه. فإنْ لم يُنظر إلاّ إلى ذلك الاسم الذي يتّهموننا به، فنحن أفضل الناس، ولا نظنّ أنّه من العدل أنّنا مبرّؤون بسبب اسمنا فقط. ولكن في المقابل، إنْ لم يكن أيّ ذنب في اسمنا وسلوكنا، فمن واجبكم (أيّها الحكّام) أن تبذلوا ما في وسعكم لكي لا تستوجبوا اللوم أمام العدل بمعاقبتكم الأبرياء ظلمًا”.
أمّا أثيناغوراس (القرن الثاني)، أحد المدافعين عن الإيمان المسيحيّ، فيتوّجه إلى قادة الدولة الرومانيّة بالقول: “ومع أنّنا لا نرتكب أيّ ظلامة، بل نتصرّف بأكثر الطرق تقوى وعدلاً نحو الآلهة ونحو إمبراطورتيكم على السواء، تسمحون بأن نُلاحق ونُخطف ونُطارد، وبأن تحاربنا الغالبيّة بسبب اسمنا وحده. غير أنّنا نجيز لأنفسنا أن نعبّر لكم عمّا يخصّنا: سيُظهر لكم خطابنا أنّنا نتعذّب ظلمًا، خلافًا لكلّ قانون وخلافًا لكلّ منطق، ونسألكم أن تدرسوا لمصلحتنا الطرق التي تجنّبنا أن نكون ضحايا الوشاة”.
يستغرب طرطليانُس (+٢٤٠)، أحد علماء الكنيسة في إفريقيا الشماليّة، ردّة فعل الدولة الرومانيّة تجاه المسيحيّين التي تدفعها إلى إبغاضهم والحكم عليهم بالقتل، فيقول: “إنّ الغالبيّة منكم تضمر للاسم المسيحيّ هذا بغضًا أعمى حتّى إنّهم لا يستطيعون أن يشهدوا للمسيحيّ شهادة حسنة إلاّ ويشوبونها باللوم لأنّه يحمل هذا الاسم. يقول أحدهم: إنّ غايُس سيوس رجل نزيه، فمن المؤسف أن يكون مسيحيًّا! ويقول آخر أيضًا: أمّا أنا فأستغرب أن يكون لوقيوس طيطس، ذلك الرجل الواعي، قد أصبح مسيحيًّا فجأةً. ولا أحد يتساءل هل غايُس ليس هو نزيهًا ولوقيوس ليس هو واعيًا إلاّ لأنّهما أصبحا مسيحيّين، ولا هل هما لم يصبحا مسيحيّين إلاّ لأنّ الواحد نزيه والآخر واعٍ”.
كان أصحاب الدولة الرومانيّة يقولون بأنّ كلّ المصائب والكوارث الطبيعيّة والأوبئة سببها المسيحيّون. فيقول طرطليانُس في هذه الصدد: “كان (الوثنيّون) ينظرون إلى المسيحيّين على أنّهم سبب الكوارث العامّة كلّها والمصائب الوطنيّة كلّها. فإنْ فاض نهر التيبر في المدينة (روما)، وفاض النيل في الأرياف، وإنْ بقيت السماء ساكنة واهتزّت الأرض، وإنْ أُعلن عن انتشار المجاعة أو الطاعون، سرعان ما يعلو الصراخ: ليُلقَ المسيحيّون إلى الأسود”. ويردّ عليهم طرطليانُس ساخرًا: “إنّي أسألكم: ما أكثر الكوارث التي نَكبت الأرض والمدن قبل طيباريوس، أي قبل مجيء المسيح! … ولكن أين كانت آلهتكم نفسها حين أهلك الطوفان الأرض باسرها؟”.
ويتابع طرطليانس دفاعه عن المسيحيّين، ويصفهم بالمـواطنيـن الصالحين الذين لا يسعون إلى أذيّة أحد، والذين لا أطماع سياسيّة لهم بالإمبراطـوريـّة أو بالانقلاب عليها، فيقول: “إنّنا نعيش معكم، ونأكل مثلكـم، ونلبس مثلكـم، ونعيش بحسب النمط الذي تعيشون به، ونخضع لضروريّات الوجود التي تخضعون لها… دون أن نتوقّف عن التردّد إلى ساحتكم العامّة، وحمّاماتكم، ومحلاّتكم، ومخازنكم، ومعارضكم، وسائر الأماكن التجاريّة، نحن نقيم في هذا العالم معكم. ومعكـم أيضًا نسافـر بحـرًا، ومعكم نخدم خدمـة الجنـود، ونعمـل في الأرض، ونمارس التجارة، وكذلك نبادلكم منتجـات فنـوننـا وعمـلنـا. فكيف يمكن أن نبدو غير نافعين لأعمالكم ما دمنا نعيش معكم ومنكم؟ في الحقيقة، إنّي لا أفهم ذلك”.
يتصدّى القدّيس يوستينُس للذين يتّهمـون المسيحيّين بالكفـر فيقـول: “يـدعـونـا النـاس مُلحدين. أجل بالتأكيد، نحن نعترف أنّنا ملحدو تلك الآلهة المزعـومة، ولكنّنـا نؤمن بالله الحـقّ، أبي العدل والحكمـة وسائر الفضائل، الذي لا يشوبه أيّ شرّ. وبالإيمان به نكرّم ونعبد بالروح والحقّ الابن الذي جاء من لدنه وأعطانا هذه التعـاليـم، ونكـرّم صفوف الملائكة الصالحين الذين يواكبونه، وكذلك نكرّم الروح النبويّ. ذلك هو التعليم الذي تعلّمناه والذي ننقله بسخاء إلى كلّ مَن يريد أن يتعلّم”.
عانى المسيحيّون، خلال معظم العصور منذ نشأة الكنيسة إلى يومنا الحاضر، من الاضطهادات. تتغيّر الدول والإمبراطوريّات والسلطنات، وتتغيّر أسماؤها وإيديولوجيّاتها وانتماءاتها الدينيّة، ويستمرّ استهداف المسيحيّين لأنّهم مسيحيّون وحسب. غير أنّنا مؤمنون بالرجاء الحقّ الذي منحنا إيّاه الربّ يسوع، وعليه نحن ثابتون لن يزعزعنا تكفير من هنا أو إرهاب من هناك. ونحن على عهد شهدائنا القدّيسين سائرون إذا اقتضى منّا الأمر ذلك.