المحبّة لا تسقط أبدًا

الأب جورج مسّوح Wednesday July 24, 2013 74

المسيحيّة أساسها الاقتداء بالمسيح، والمحبّة هي ذروة هذا الاقتداء. وإن شئنا أن نوجز الديانة المسيحيّة بعبارة واحدة لقلنا: “المسيحيّة ديانة المحبّة”. ولا غرو في ذلك، فالمسيح يسوع لم يخلّف إلاّ وصيّة واحدة: “أحبّوا بعضكم بعضًا كما أنا أحببتكم” (يوحنّا 15، 12). وليس في هذه الوصيّة إعجاز غير قابل للتحقيق، فالمسيح متيقّن من أنّ الإنسان قادر على بلوغ أسمى درجات المحبّة، أي بذل الذات كما بذل المسيح نفسه مجّانًا على الصليب: “ليس لأحد حبّ أعظم من أن يبذل نفسه في سبيل أحبّائه” (يوحنّا 15، 13). أمّا المعيار الوحيد للمحبّة الحقّ فليس القول، بل العمل: “لا تكن محبّتنا بالكلام ولا باللسان، بل بالعمل والحقّ” (رسالة يوحنّا الأولى 3، 18).

ينبّه الرسول بولس المؤمنين إلى أهمّيّة امتلاكهم نعمة المحبّة التي بدونها تصبح مواهبهم عادمة الجدوى وفارغة من مضمونها الروحيّ الأصيل. فبعد أن يعدّد الرسول المواهب اللازمة لبناء الكنيسة، يقول: “إن كنتُ أنطق بألسنة الناس والملائكة ولم تكن فيّ المحبّة فإنّما أنا نحاس يطنّ أو صنج يرنّ. وإنْ كانت لي النبوّة وكنت أعلم جميع الأسرار والعلم كلّه، وإن كان لي الإيمان كلّه حتّى أنقل الجبال ولم تكن فيّ المحبّة فلست بشيء” (الرسالة الأولى إلى كورنثس 13، 1-2).

ليس المهمّ، إذًا، أن يكون المرء معلّمًا بارعًا، أو نبيًّا عظيمًا، أو عالـمًا كبيرًا، أو مصلّيًا، أو صوّامًا، أو جوّادًا، أو حتّى مؤمنًا… بل أن يكون على ذلك بالإضافة إلى اكتسابه المحبّة. فبولس الرسول يكرّر القول مرّات عدّة في متن الرسالة إنّ أيّ أمر حسن يعمله المرء ولم تكن المحبّة قاعدته فلن ينتفع شيئًا.

يوصي بولس الرسول مريديه بألاّ يتعاملوا مع الوصايا والأحكام الإلهيّة بوصفها فرائض أو شرائع يتوجّب عليهم إتمامها على ظاهر الحرف، بل أن يلتزموها كيانيًّا ويمارسوها بحبّ واقتناع كاملين. “الحرف يقتل أمّا الروح فيحيي”، هكذا يريد الربّ أن يتعامل الإنسان مع الشريعة، أي أن يتبنّاها وينفّذها بمحبّة قصوى كونها ضروريّة لخلاصه ولحياته الدائمة مع الله.

يتابع بولس الرسول كلامه على المحبّة، فيحدّدها بالآتي: “المحبّة تتأنّى وترفق، المحبّة لا تحسد، المحبّة لا تتباهى ولا تنتفخ، ولا تأتي قباحة ولا تلتمس ما هو لها ولا تحتدّ ولا تظنّ السوء، ولا تفرح بالظلم بل تفرح بالحقّ، وتحتمل كلّ شيء وتصدّق كلّ شيء وترجو كلّ شيء وتصبر على كلّ شيء. المحبّة لا تسقط أبدًا” (كورنثوس الأولى 13، 4-8). فلا يمكن متكبّرًا أو حقودًا أو أنانيًّا أو حاسدًا أو ظنّانًا بالسوء أو ظالـمًا أن يحبّ بصدق، وإن مارس من حين إلى آخر ما يبدو أنّه فعل محبّة.

المحبّة الأصيلة التزام دائم بالإنسان يستدعي الفرح بالعطاء بلا حساب وبالخدمة المجّانيّة، “مجّانًا أخذتم، مجّانًا أعطوا”. وهذا يتطلّب تهذيبًا للطبع والسلوك، وتحصينًا للقلب والعقل ضدّ الأهواء. أمّا اكتساب الفضائل كلّها، وذروتها المحبّة، فيبدأ بالتوبة الحقيقيّة والخضوع لمشيئة الله في كلّ أمر. أن يكتسب أحدهم المحبّة يعني أنّه اكتسب المسيح نفسه.

الأب جورج مسّوح

“النهار”، 24 تموز 2013

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share