يعتبر دير “سيّدة الناطور” من الأديرة الارثوذكسيّة المهمّة في الشمال، وتحديداً في أبرشية طرابلس والكورة وتوابعها للروم الارثوذكس. موقعه في منطقة الحريشة – أنفه على شاطئ البحر بين جامعة البلمند شمالاً ودير سيّدة النوريّة جنوباً، أضفى عليه هالة من الرمزية الإستثنائيّة.
شيّد الدير، وفق الوثائق المتوافرة، في القرن السادس وتهدّم بفعل الزلازل التي ضربته تباعاً، ثم أعيد بناؤه عام 1113. تهدّم القسم الغربي منه عام 1914 عندما صبّت باخرة حربية تابعة للحلفاء حممها عليه بعدما تعرضت للنيران من البّر، إذ اعتقد جنودها أن الدير قلعة للأتراك.
موقع الدير الممّيز، أتاح له بناء رأس بحري يعرف بـ “رأس الناطور”، فوق كهف تغمره مياه البحر أطلق عليه إسم “كهف الناطور”.
قصة “الناطور”
يرتبط تاريخ بناء الدير بقصة قديمة، يتداولها أهالي البلدة والأخت كاترين الجمل، ساكنة الدير، وترويها الى كل من يسألها عن الدير. تفيد القصة، وفق الأخت كاترين، “بأن رجلاً ثرياً أراد التكفير عن خطاياه، فقصد الدير المحاذي للبحر، ورمى فيه مفتاح خزنة نقوده، وقال: “إذا أعيد المفتاح إليّ يكون الله قد صفح عن جميع خطاياي”. وعاش في الدير زاهداً، يعتاش من الطعام الذي يقدمه إليه الصيّادون. إلى أن رمى أحدهم ذات يوم شبكته في البحر، وقال “سأقدم لهذا الفقير كل ما اصطاده”. وبعدما وفى بوعده، إكتشف الرجل داخل إحدى السمكات مفتاحه الذي رماه. عندها، أيقن أن الله صفح عن خطاياه، فوزّع أملاكه وأمواله على الفقراء وعاد إلى حياة النسك والصلاة. وربما تعود تسمية الدير بالناطور إلى الفترة الطويلة التي قضاها الرجل في الدير منتظراً رحمة الله”.
وإذا كان جزء من أقسام الدير حديث البناء، إلاّ أن الوثائق المتوافرة تشير الى أن الكنيسة والعقود الموجودة فيها تعود إلى الفترة الصليبيّة. وقد شهد الدير ورشة ترميم عام 1727 عندما سكن أحد الكهنة فيه، وكانت البلاد تعاني آنذاك مجاعة، فاستعان ببعض الأهالي للعمل لقاء توفير معيشتهم، وأضاف غرفاً في الطبقة العلوية.
أثناء الحرب العالمية الأولى، وتحديداً عام 1914، تعرّض الدير للقصف وهدمت إحدى واجهاته، لكنه بقي حتى عام 1973 من دون أي ورشة ترميم رغم تناوب عائلات عدة على السكن فيه وآخرها عائلة مالك ومنها الخوري جرجس مالك، ودائماً وفق المعلومات المتوافرة في الدير عن بنائه وتطوره.
في الحرب الأهلية الأخيرة، تمّ حرق قسم من الدير بطريقة مفتعلة، فهجره قاطنوه واقتحمه مسلحون وعبثوا بمحتوياته.
ورشة الترميم
في تشرين الثاني 1973، سكنت الأخت كاترين الجمل في الدير، ولا زالت الى اليوم، عملت طوال حياتها على ابراز دور هذا الدير الأرثوذكسي. وتقول في هذا السياق، إنّ “الدير كان مقفراً ومهجوراً يصلح لكل شيء إلاّ للسكن، لكني قررت تحويله مشغلاً تتعلّم فيه الشابات أصول الخياطة والتطريز”. إلاّ أنّ أمنيتها لم تتحقق، لأن الدير استضاف “مدرسة واحة الفرح”.
عام 1976، باشرت الأخت كاترين أعمال الترميم من مردود عملها الخاص في خياطة اللباس الكهنوتي. لكن احتراق مشغلها دفعها إلى مغادرة الدير والإنتقال إلى فرنسا ثلاث سنوات متتالية. إلاّ أنها ما لبثت أن عادت مجدداً الى الدير وتابعت ورشة الترميم، الى ان أنجزت أعمال القسم الأخير في العامين الماضيين.
لم تخلُ أعمال الترميم من صعوبات مالية، وتقول الاخت كاترين انه “تمّت الاستعانة برهبان فرنسيين وروس، لرسم جداريات الكنيسة والهيكل والمدخل، وبعلماء آثار ومهندسين متخصّصين للحفاظ على طابع الدير الذي يعود الى القرن الثاني عشر”.
منذ 14 عاماً، عاد الدير يستقبل المؤمنين للمشاركة في الصلاة التي يرأسها الأب قسطنطين سعد. كما تقام فيه احتفالات كل المناسبات الدينية الارثوذكسية الكبرى وايضاً المحلية مثل الختن الثاني وصلاة البراكليسي وعيد دخول السيدة الى الهيكل وعيد رقاد السيدة العذراء، كما ان الفنانة فيروز أحيت فيه ترانيم الجمعة العظيمة عام 2013.