أمامي، أمام كلّ واحد منّا، تحدّيات لا بدّ لنا من مواجهتها بنجاح وإلاّ ترتسم، على مسيرة كلّ واحد منّا، كمؤمن بالرّبّ يسوع، علامة سؤال كبيرة. مسيحيّتي برمّتها تكون في الميزان. مهما قلت ومهما فعلت لا أنتفع شيئًا إذا لم أكن في مستوى التّحدّيات الّتي تواجهني كلّ يوم!
التّحدّي الأوّل. قبل أن أتعلّق بالله ومسيحه أحتاج لأن أتعلّق بإنسان ما (رجلاً أو امرأة) متعلِّقٍٍ بالله ومسيحه! كذلك عليّ أن أَقبل أن يتعلّق النّاس بي، ما دمت متعلِّقًا، بالمسيح! الإنسان، بالإنسان يُصلَح! هذه قاعدة. لا أحد يصل إلى الله إلاّ من خلال إنسان آخر. الدّخول في علاقة مباشرة مع الله من دون إنسان استثناء. المبادرة، في هذا الشّأن، هي لله وحده. إلى ذلك، فقط مَن مال قلبُه إلى الله، بفعل سلامة النّاموس الطّبيعيّ فيه، وما انوجد بشريّ يعينه، هذا يُرسِل إليه الرّبّ الإله أحد ملائكته أو قدّيسيه، أو حتّى والدتَه. وقد يتراءى له شخصيًّا، ليهتمّ بأمره ويأتي به إلى دروب الخلاص ويقوده إلى ينابيع الحياة. ليس أحد متروكًا. ولكن هناك قاعدة وهناك استثناء.
الإنسان غير المستنير بحاجة إلى شخص مستنير ليستنير! الكتب وحدها لا تنفع مهما خبّرت عن الاستنارة والمستنيرين! الموضوع موضوع كيانيّ. مليون شمعة غير مضاءة لا يمكنها أن تضيء شمعة واحدة منطفئة. بالعكس، شمعة واحدة مشتعلة بإمكانها أن تُشعل مليون شمعة غير مشتعلة، إلاّ، طبعًا، إذا داخلت هذه أو تلك من الشّموع مواد لا تتيح للشّموع أن تشتعل!
أحد التّلامذة المتتلمذين لمسيح الرّبّ سأل، مرّة، معلِّمه الشّيخ المستنير: ماذا أعمل لأخلص؟ فأجابه: “كلّ ما تراني أعمله اعملْه أنت أيضًا فيرضى الرّبُّ الإله عنك”! المسيحيّة لا تُقْتَنَى، بالأحرى، إلاّ بالقدوة! بعِشرة مَن يعرفون الله يكتسب المرءُ معرفة الله. وبالإقامة مع الّذين يحبّون الله يحصِّل الإنسان محبّة الله؛ تنتقل نعمة محبّة الله من الآخرين إليه! الكتب تنفع وتغذّي ولكنْ في إطار هذا التّعايش لا من دونه! في ذاتها، الكتب قلّما تنفع إلاّ بتدخّل النّعمة الإلهيّة كما سبق القول! الكتب، بحدّ ذاتها، لا تحيي، مهما تضمّنت معلومات قيِّمة! إذا ما كنتَ في الظّلمة، فوجودك وسط تلّة من الشّموع لا يضيء ظلمتك! الكتب تزوِّدك بأفكار عن الخلاص، لكنّها لا تقدر، من ذاتها، أن تخلِّصك! من هنا أنّ المبالغة في الاعتماد على الكتب، في زمن العقلنة، وكذا الإغضاء عن السَّير في دروب القدوة، يعطِّل ويلقي، بالحري، النّاسَ في مسيحيّة نظريّة عقلانيّة نفسانيّة، ومن ثمّ خاوية وشيطانيّة! كم من المسمَّين مسيحيِّين لا يعرفون لا القراءة ولا الكتابة. فقط تعلَّموا القليل بسماع الأذن وعاشوا عليه، في كنف قوم أحبّوا الله، فتقدّسوا تقديسًا عظيمًا! وكم من أولئك المسمَّين مسيحيِّين أمضوا عمرهم في تكديس المعارف الكتبيّة في عقولهم، وساوَوا، على نحو واع أو غير واع، بين الحياة المسيحيّة الحقّ وما حصّلوه من معلومات في شأنها، وعاشوا في مناخات تبلّدت عن الإيمان الحيّ، فظنّوا، وهمًا، أنّهم يعرفون، وهم الجاهلون، لأنّ جلّ معرفتهم تخمينيّة تصوّريّة، واغتذوا بالتّبن العقليّ واستهانوا بالطّعام الّذي يُقيت، فماتوا جوعًا واستبانوا منتفخين أغبياء في قلوبهم!
من هنا أهمّيّة العائلة المسيحيّة المستنيرة! المسيحيّة، للمسيحي الحقّ، يشربها الطّفل مع الحليب! ومن هنا أهمّيّة الرّعيّة المستنيرة! ليست الرّعيّة كتلة اجتماعيّة جغرافيّة مهما كانت كبيرة ومزدهرة. الرّعيّة الحقّ لا تُقاس بعدد الّذين يشتركون في النّشاطات الرّعويّة ذات التّنظيم الرّاقي! مقياس الحيويّة لا يكمن، بالضّرورة، في عدد الّذين يأتون إلى الكنيسة ويملؤونها يوم الأحد! المقاييس الخارجيّة قد تكون مضلِّلة، أو بديلة عن المقياس الدّاخليّ القويم! أفهمُ أن يعتبر الرّعاة النّجاح الظّاهريّ مقدِّمة لتعميد أبناء الرّعيّة، في الأعماق، بالرّوح والحقّ! هذا التّصوّر ليس غير مقبول. ولكنْ، خشيتي، دائمًا، أن نكتفي بالمقدّمات وظواهر الأمور، ولا نغوص في الأعماق، إمّا لأنّنا لا نعرف كيف ونكتفي بما حقّقناه، وإمّا لأنّ الأكثرين يمانعون لأنّهم، ولو كانوا مستعدّين للقبول بقدر محدود من الالتزام المسيحيّ، فليسوا في وارد التّضحية، من أجل المسيح، بامتيازاتهم الشّخصيّة الاجتماعيّة، وأفكارهم الخاصّة برمّتها! لهم كلٌّ أفقُه، ومسيحُ الرّبّ مُدْخَل ضمن هذا الأفق وليس هو أفقَهم! إفراغ الذّات، على غرار المعلِّم (فيليبي)، من أجل الرّبّ يسوع، ليس، عند الأكثرين، في الحسبان! هذا أكلفُ، لديهم، من أن يقتبلوه! لذا، عمليًّا، كلٌّ يختار من كنيسة المسيح ما يناسبه، وما يوافق وجدانه، وما يعتبره إغناءً لأفقه الخاصّ به!
وهذا يجعلك بإزاء كنيسة تطغاها الفردانيّة! كلٌّ يصنع مسيحيّته كما يحلو له. لا يعود لديك وجدان مسيحيّ رسوليّ تراثيّ واحد مستقرٌّ في نفوس المؤمنين، ولكلّ واحد، في إطاره، موهبته الخاصّة الّتي يُغني بها ذاته والجسد الحيّ للكنيسة، معينًا ومستعينًا بسواه، ليصير الجميعُ واحدًا كما أنّ الآب والابن واحد! هذا الواقع، بالأحرى، يجعل إمكان التّغيير الوجدانيّ العميق في النّفوس ضئيلاً، لا بل ضئيلاً جدًّا! فلا غرو إن وجدنا الاهتمام بالعائلة المسيحيّة المستنيرة آخذًا في التّضاؤل، وجهلَ التّراث الرّوحيّ الحيّ آخذًا في الازدياد! كأنّي بالرّعيّة المعاصرة، بعامّة، باتت بعيدة عن مناخ المسيحيّة الممتلئة من روح المسيح وفكره وحضوره. هذا صار، لدى أكثر المسيحيّة المعاصرة، شيئًا بائدًا أو زمّيتًا أو أصوليًّا، بالمعنى المنفِّر للكلمة! هذه المقاربة، الواعية أو غير الواعية للأمور، تَميل بالمسيحيّة المعاصرة إلى التموقع في موقع يختلف، جوهريًّا، عن موقع المسيحيّة كما عرفها المسيحيّون، جيلاً بعد جيل، لمئات السّنين، إلى زمن ليس ببعيد عنّا! المسيحيّة المعاصرة، كما تتراءى لعيوننا، أسبغت على المسيحيّة التّراثيّة الحيّة، إلى حدّ ليس بقليل، صفة تاريخيّة متحفيّة، ومالت إلى عقلنة أسسها وركائزها، وأدخلتها في وجدان مضمونه الرّوح الدّهريّة، وأداته الجهد العقليّ العلميّ، ومداه المقاربة النّفسانيّة العاطفيّة!
طبعًا، هذا يجعل الحياة المسيحيّة، بالحري، مظهرًا شعاريًّا طقوسيًّا، ويغيّب عنها عمل روح الرّبّ. بكلام آخر، مسيحيّتنا أضحت، بالأكثر، مسيحيّة بلا مسيح وبلا روح قدس! تجوّفت! ما أدخلَنا، في حقيقة الأمر، في مدى “ضدّ المسيح”، الّذي هو، تحديدًا، ما فيه روح هذا الدّهر، وما ليس له من المسيح والكنيسة إلاّ المظهر الخارجيّ!
أعود فأقول إنّ المسيحيّة تُتناقل بالقدوة، سواء على صعيد العائلة المسيحيّة، أم على صعيد الرّعيّة التّراثيّة الحيّة، أم على صعيد الحياة الرّهبانيّة! طبعًا لهذا التّفاعل العميق بين المؤمنين مُسَاعِدات: الكتب وسواها… ولكنْ، في خضمّ الوجدان العصريّ شبه المعمَّم، والمتناقَل بين المؤمنين، تواجهنا مشكلة كأداء ذات ثلاث حسكات جارحة: أنّ القدوة قلّما عادت أساس التّناقل التّراثيّ الحيّ، وأنّ الّذين يمكن الاقتداء بهم يتناقصون باستمرار لأنّ مسيحيّة العصر يطغى عليها طابع الفردانيّة؛ والاقتداء بالآخرين بات، في الوجدان المعاصر، كأنّه مؤشّر ضَعْف في الشّخصيّة! ثمّ أخيرًا، وليس آخرًا، الاقتداء بمَن اقتدوا بالّذين سبقوهم بات يُعتبر ضربًا من الرّجعيّة والتّمنّع عن مماشاة التّقدّم وروح العصر والتّقوقع والارتداد إلى الوراء، وهذا صار نقيصة وعيبًا، ما يجعل المسيحيّة المعاصرة تلتزم فكرًا غارقًا، وجوديًّا، في روح “ضدّ المسيح”، باعتبار أنّه هو المسيحيّة المنشودة العصريّة الحقّ!
كيف بإمكانك أن تصمد، اليوم، في الأمانة للتراث الحيّ للآباء، وأنت تسير عكس روح الحداثة هذا، رغم أنّ بعض الحداثة لا بدّ منه؟ هل بإمكانك أن تقلب المعادلة جذريًا، ما دام أنّ المسيحيّة الحقّ جذريّة الطّابع: الموقف الكليّ أو لا شيء؟ ثمّ ماذا بإمكانك أن تعمل، عكس التيّار، لتساهم في تقويم ما اعوجّ وانحرف من وجدان النّاس؟ أسئلة مضنية تواجهك، لا شكّ، مهما قلت: الله معنا، إذا ما شئت، حقًا، أن تنتقل من مستوى ظواهر الأمور إلى مستوى الأمور في أعماقها! فسحة إصلاح النّاس بالنّاس تضيق وتصعب، كما تلاحظ، فتفطن، في قرارة نفسك، إلى أنّه إن لم يتدخّل ربّك، على نحو غير عاديّ، فما يمكنك أن تغيِّر، من الصّورة، في العمق، إلاّ أقلّها! وتبقى، كإرميا النّبيّ، شاهدًا متألّمًا لربّك، ولكنْ معزولاً، مرذولاً، ملقًى في جبّ اللاّمبالاة، فيما النّفوس بالغة، من الفساد، مبلغًا يكاد معه كلُّ الجسد يكون مفلوجًا، لجهة الإحساس بالرّوح بكلمة الله، وذلك على ٱمتداد الجسد كلّه، من الرّأس إلى أخمص القدمين!
يتبع (التّحدي الثّاني)