الأب أليبي من دير مغاور بسكوف
من الجبابرة المسيحيّين الرّوس في الزمن الشيوعي:
الأب أليبي
رئيس دير غير ٱعتيادي!
(28 تموز 1914 – 12 آذار 1975)
في زمن خروتشوف (1953 – 1964) أُغلقت جميع الأديرة، في الاتحاد السّوفيتيّ، ما خلا دير اللافرا الكبير الّذي أرادته السّلطات مكانًا سياحيًا، وديرٍ آخر بعيدٍ على الحدود الإستونية هو دير “بسكوف-بيتشيرسكي”. وحده هذا الدّير بقيت فيه حيّة بذور الحياة الرّهبانيّة الحقّ. حاولت السّلطات السّوفيتيّة إغلاق هذا الدّير بكلّ ما أوتيت من قوًى ففشلت، لأنّ قوة الله الّتي فعلت في رؤساء هذا الدّير ورهبانه كانت أقوى. الأرشمندريت أليبيوس مثال صارخ لانتصار الله على قوى الظلمة!
كان الأب أليبي، رئيس دير “بسكوف-بيتشيرسكي”، يُذيع على الملأ: “أنا أرشمندريت سوفيتيّ”، ويقرن القول بالفعل بشكلٍ طبيعيّ وبسهولة.
في أوائل السّتينات، زارت الدّير لجنةٌ محليّة مهمّتها إيجاد ذريعة لإقفال الدّير. لاحظ أعضاؤها، في أثناء تجوالهم في أنحاء الدّير، حجّاجًا يهتمّون بأحواض الزّهور والحدائق، فهرعوا للحين إلى الأب أليبي سائلين إيّاه:
– على أي أساس يعمل هؤلاء النّاس هنا؟
فأجابهم الأرشمندريت “السّوفيتيّ”:
– إنّه الشعب الّذي تعود له كلّ الأرزاق، وهو يعمل في الأرض الّتي يملكها!
وضع هذا حدًّا لمزيد من الأسئلة.
وفي مناسبة ثانية، جاءت إلى بسكوف اللّجنة الشّعبيّة من أجل التدقيق الماليّ، وكان لها الهدف عينه. سأل رئيسُ الدّير أعضاءها عمّن فوّضهم بهذه المهمّة؛ فأجابوه:
– نحن نمثّل التنظيم المالي الّذي…
فقاطعهم الأب أليبي:
– ليس عندي سوى رئيس واحد: الأسقف يوحنّا الّذي من بوسكوف. اذهبوا لرؤيته والحصول على تصريح منه. فمن دونه، لا أستطيع أن أسمح لكم بالاطّلاع على الملفّات الماليّة للدّير.
انصرف المدقّقون. وبعد ساعات قليلة، اتّصل أسقف بوسكوف بالأب أليبي، هاتفيًا، متوسّلاً إليه، مضطربًا، راجيًا إيّاه أن يسمح لهؤلاء النّاس بالعمل. فأجابه الأب أليبي:
– يا سيادة المطران، إنّ اتصالاً هاتفيًا لا يمكن أن يشكّل وثيقة قانونيّة لأسلّم الملفّات. ابعث لي برقية.
بعد قليل، وصلت البرقية. وعندما عاد المدقّقون إلى الدّير، سألهم رئيس الدّير والرّسالة في يده:
– قولوا لي: هل أنتم شيوعيّون؟
– نعم، معظمنا…
– وهل تلقيتم بركة الأسقف، أسقف بوسكوف؟
– نعم…
– سوف أبعث بهذه البرقية حالاً للّجنّة المحليّة للحزب، لأنّي أرى أنّ عليكم أن تؤدّوا حسابًا لديها!
مذ ذاك، لم يعد يُسمع بأنّ أحدًا أتى ليدقّق في حسابات الدّير الماليّة!
الاسم المدني للأرشمندريت هو “إيفان ميخايلوفيتف فورونوف”، وقد حارب على جبهات متعدّدة في الحرب الوطنيّة الكُبرى1، كما انتقل من موسكو إلى برلين، ومن ثم، دافع لمدة ثلاث عشرة سنة عن دير “بوسكوف-بيتشيرسكي”، حاميًا إيّاه من الدّولة الّتي سكب، في الماضي، دمّه من أجلها.
في هذه الحرب وفي تلك، اضطر الأب أليبي أن يحارب لا من أجل الحياة، وحسب، بل حتّى من أجل الموت. فإنّ “نيكيتا خروتشوف”، سكريتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في الاتحاد السّوفيتيّ، كان بحاجة إلى انتصار كبير، بأي ثمن، لا يقل شأنًا عن انتصار سلفه2 الّذي كان يغار من عظمته كثيرًا. وقد قرّر خروتشوف أن يربط انتصاره، في معاركه المستقبلية، بألفية الكنيسة الرّوسيّة، الّتي أعلن عليها الحرب، واعدًا، بشكلٍ رسميّ، أمام العالم أجمع أنّه سيُريهم عمّا قريب، على التلفاز، آخر بابا روسيّ.
للحال، أخذت تُفجَّر آلاف الكنائس والكاتدرائيّات، أو تُقفل أو تُحوَّل إلى مستودعات أو محطّات للجرّارات الزّراعية. أُوقفت معظم الكليّات اللاّهوتية الكبرى، وحُلّت معظم الشركات الرّهبانية ، وسُجن عدد كبير من الرّهبان. لم يبقَ، على كلّ الأراضي الرّوسية، سوى ديرين: دير الثّالوث القدّوس للقدّيس سيرجيوس رادونيج، الّذي حافظت عليه السّلطات كمحميّة دينية يعرضونها على الأجانب3؛ ودير “بسكوف-بيتشيرسكي”. هناك جاهد الأب أليبي، الرّئيس العظيم، خلال هذه الفترة، ضدّ آلة الدّولة القوية المُلحدة. وأجمل ما في ذلك أنّه ربح المعركة!
دير بسكوف
في تلك السّنوات، تابعت الكنيسة المضطَهدة ماجريات هذه المبارزة غير المتساوية القوّة. فكانت أخبار “بيتشوري” تنتقل سرًّا. وفي وقت لاحق، دوّن المشاركون في هذه الأحداث شهاداتهم.
في ما يلي سردٌ لمعارك في حقبة تاريخية قد زالت.
في أمسية من أمسيات فصل الشتاء، اقتحم عدد من الرّجال، بلباسٍ مدنيّ، مكتب الأب أليبي، وقدّموا إليه ورقة رسمية تتضمّن أمرًا بإقفال دير بوسكوف-بيتشيرسكي. وقد أوكلوا إلى رئيس مهمّة إعلام الشركة. عندما أخذ الأب أليبي علمًا بالنّص، أمسك الورقة ورماها في النّار المشتعلة في المدخنة. وقال لزائريه المندهشين بهدوء مفسِّرًا:
– أؤثر أن أُضحي بحياتي ولا أُقفل الدّير.
كانت الوثيقة الّتي أُحرقت مرسومًا حكوميًّا من دولة الاتحاد السّوفييتي يحمل إمضاء “نيكيتا خروتشوف”.
نقل هذه القصة الأرشمندريت نثانائيل الّذي كان شاهدًا للحادثة.
لم أعرف الأب أليبي في حياته. لكنّني أعجز التكلّم على دير “بسكوف-بيتشيرسكي” من دون ذكر اسمه.
لقد تسنّى لي أن أعرف رهبانًا كثرًا، على رأسهم الأب أليبي، بالإضافة إلى رسّامين مشهورين وكتّاب وعلماء ومرمّمين، في موسكو ولينيغراد وريغا، استقبلهم الأب أليبي في مقرّه المضياف. لقد كان، بالنّسبة إليهم، مثالاً للرّاهب المقاتل الروحاني النّزعة، شجاعًا، وأبًا مثاليًا متطلّبًا ومحبًّا.
كان عددٌ كبيرٌ من معاصريه (وبينهم رهبان نسّاك من النُخبة) يعتبره قدّيسًا، على الرّغم من ميله إلى العملانية، وحسّه المرتكز على الواقعية، وذهنه النّيّر والحادّ أحيانًا، وخياله المذهل.
كان الأرشمندريت سيرافيم، الّذي يتمّتع بسلطة نافذة في الدير، يستغرب، بعد موت الأب أليبي، موقف الرّهبان الّذين يحلمون بزيارات حجٍ بعيدة إلى حيث تمّم قدّيسون عظاماء مآثرهم الرّوحية، ويسأل: ”لماذا السّفر بعيدًا؟ اذهبوا إلى المغاور، هناك حيث توجد رفات الأب أليبي“.
عرّفني الأب روفائيل بالقاعدة الرّوحية الّتي تلقنها من الأب أليبي: “لا يحبّ الرّب الإله الجبناء”، قال في إحدى عظاته: “لقد رأيت، في الحرب، بعينَيّ المجرّدتَين، كيف كان بعض النّاس يخاف من الموت جوعًا. هؤلاء كانوا يحملون على ظهورهم أكياسًا من البسكويت حتّى يُطيلوا حياتهم ولا يُحاربوا؛ فيما كانوا يسقطون مع البسكويت ويُعاينون أيّامهم القصيرة. أما من كان يخلع سترته العسكرية ويُصارع العدو ببسالة، فكان يبقى على قيد الحياة”.
عندما جاء الموظفّون الشيوعيّون ليصادروا مفاتيح المغاور، أمر الأب أليبي الأخ الخادم قائلاً:
– أيّها الأب كورنيلي، أحضر لي فأسًا، فسوف نقطع بعض الرّؤوس!
إذ ذاك ولّى الموظفّون الحكوميّون الأدبار! فبالنّسبة إليهم، من كان يستطيع أن يفهم ماذا يجول في فكر هؤلاء المتعصّبين المتحجّري الأذهان؟!
كان رئيس الدّير على يقين أنّه لا يُصدر هذه الأوامر جزافًا في الهواء. ذات يوم، إذ أتوا للمرّة الألف مُطالبين إيّاه بإقفال الدّير، أعلن بحزم وصرامة:
– إنّ نصف الإخوة هنا في الدّير قد حارب على الجبهة. نحن مسلّحون، وسنحارب حتّى آخر رصاصة. انظروا إلى هذا الدّير! انظروا إلى النّظام الّذي نحفظه هنا، كيف أنّ الفِرَق موزّعة هنا وهناك! انظروا إلى الجدران: لن تستطيع دباباتكم المرور إلى هنا! لن تستطيعوا أن تأخذوا سوى ما في الجوّ بطائراتكم وبإسقاطكم القذائف! لكن، ما إن تلوح في الأجواء أوّل طائرة فوق الدّير، حتّى يُنقل هذا النّبأ على الفور إلى العالم أجمع من خلال ”صوت أميركا“ (Voice of America)4. لذلك أحثّكم على التفكير!
أجهلُ أيّ مستودع ذخائر يملكُ الدّير. ولكنّي أظنُّ، بالحريّ، أنّها خدعةٌ حربيّة لرئيس الدّير، وأنّ تهديده يُخفي، مرة أخرى، دعابة. لكن، كما هو معروف، كلّ دعابة تحمل في طيّاتها بعضًا من الحقيقة. في تلك السّنوات، كانت الأخويّة تعكس صورة فريدة: أكثر من نصف الرّهبان كانوا قد تقلّدوا أوسمة، وكانوا محاربين قدامى في الحرب العالمية الثانية. وعرف أيضًا جزءٌ كبيرٌ منهم المخيّمات السّتالينيّة. كما عرف قسمٌ آخر الاثنين معًا: الحرب والمعتقلات.
كان الأب أليبي يقول: “من يتّبع الهجومية، في تعاطيه مع الأمور، هو الرّابح”. وكان هو نفسه يتّبع هذا النهج. في هذه السّنوات، بالتّحديد، إذ كان يجاهد لبقاء الدير، أعاد إعمار السّور المنيع الّذي كان قد خرب، ورمّم الكنائس المهملة، وأعاد إلى الجداريّات رونقها القديم بفضلِ عملٍ فنيّ محترف لا غبار عليه. كما رمّم أيضًا المباني الّتي كان يقطنها الرّئيس والشركة، إذ كان هو نفسه رسّامًا، وحافظَ على رسوم أشهر الفنّانين الرّوس والأجانب. كانت، في مجموعته الكبيرة، رسومات لـ”ليفيتان” و”بولينوف”. لكنّه، قبل أن يموت، سلّم هذه التحف الفنية، بطيبة خاطر، إلى المتحف الرّوسيّ (في بطرسبورج). أخيرًا، اعتنى الأب أليبي بالحدائق وأحواض الزهور، في كلّ مكان، وزرع دوالٍ رائعة، حتّى أضحى الدّير من أجمل المواقع في الرّوسيا. جاءت زائرة لأوّل مرّة إلى “بيتشوري”، ربما حاجّة أو سائحة؛ فوجّدت المكان خلابًا، مذهلاً، خياليًّا بعض الشيء وسط الواقع السّوفييتيّ الكئيب والشاحب.
أهمّ ما أنجزه الأب أليبي هو إحياء الحركة الرّوحيّة، الّتي كان الستاريتز أي الشيوخ محرّكيها.
عادة، لا تتعلّق الحركة الرّوحية بمكانٍ محدّد، أو بدير. فهي تنتقل حول العالم، وتنمو وتنتشر، أحيانًا، بشكلٍ غير متوقع، إلى ما وراء الـ”فولغا”، وفي أساقيط صحاريّ مصر الشمالية، وحتّى في صحراء “بيلوبيريجسكي”، وفي عمق الغابات، وفي “ساروف” و”أوبتينا”. لكن، في منتصف القرن العشرين، وجدت هذه الحركة ملجأها في دير “بوسكوف-بيتشيرسكي”، وعرف الأب أليبي أن يتبيّن مسارها الخفيّ؛ فقام بحماية الشيوخ ككنزٍ ثمينٍ، وزاد في عددهم. وقد نال الموافقة لنقل عدد من شيوخ دير “فالامو”5 من فنلندا إلى “بيتشوري”، واستقبل الرّاهب الكاهن “يوحنا (كريستيانكين)” الّذي كان قد فقد حظوته بعد سجنه ونفيه. كما كان ملاذًا للأب أدريان الّذي أُجبر على ترك “لافرا الثّالوث القدّوس – القدّيس سيرجيوس”. نمت في دير بوسكوف مجموعة الشيوخ، على عهد الأب أليبي، وشكّل الحفاظ على هذه الحركة في تلك الحقبة التاريخية عملاً بطوليًا حقيقيًا.
في تلك السّنوات، الّتي عصف فيها الترويج ضد كلّ ما يتعلّق بالدّين، كان لدى معظم السّوفياتيّين تصوّر ساخر عن الأديار. لذلك، لم يكن الأب أليبي يستغرب الأسئلة السّخيفة الّتي كان يطرحها النّاس. بل كان يُظهر لهم، بروحٍ من الدعابة والمخيلة المذهلة، سذاجتهم، ومفاهيمهم اللاعقلانية، غير المتماسكة، المحفوفة بالأكاذيب القذرة.
ذات يوم، عند مدخل الكنيسة، استوقفت الأب أليبي مجموعة زوّارٍ من السّوفيتيّين المتمسّكين بالفكر الشيوعي. وفي مداخلةٍ، بالكاد ضبطوا فيها غيظهم، طالبوه بالحقيقة في شأن استغلال السّلطات الإكليريكية للرّهبان البسطاء، وما يختصّ بالاضطهادات، وفظاعة الحياة الرّهبانية الّتي كتبت عنها الصّحف.
فسألهم الأب، بنبرة غامضة، بمثابة جوابٍ:
– أتسمعون؟
– ما الّذي نسمعه؟ قال السّيّاح مستغربين.
– أتسمعون شيئًا ما؟
– إنّنا نسمع الرّهبان يرتّلون.
– هوذا إذًا: إذا كانوا يعيشون بشكلٍ سيّئ فلِمَ، إذًا، يرتّلون؟
ومرّة أخرى، سأله شيوعي، وهو ضيف جاء من فنلندا، مع أصدقاء له من الاتحاد السّوفييتيّ، السّؤال التّقليدي الخاص بكلّ الملحدين:
– أتستطيع أن تفسّر لنا لماذا لم يشاهد كلُّ روّاد الفضاء الله، عندما جالوا في الفضاء الخارجي؟
فلفت الأرشمندريت انتباه ضيفه متعاطفًا معه:
– يُمكن لهذه النّائبة أن تحصل لك أيضًا، إذ إنّك زرت “هيلسينكي” ولم ترَ الرّئيس.
يذكر من زار “بيتشوري”، في تلك السّنوات، خروج الأب أليبي إلى شرفة المبنى حيث كان يسكن. كان يمكن لهذه الإطلالات أن تكون متنوعة. أحيانًا، في الرّبيع، ولشدة انزعاجه من زعيق الغربان، كان يخرج إلى الشرفة حاملاً بندقية، ويُطلق عليها النّار حتّى تتطاير مزعورة. لم تكن البندقية حقيقية، بل مزيّفة بشكلٍ محترف، تُستخدم لإرهاب الطيور. إنّ هذا المشهد برمته – صباحٌ مشمس في الدير، ورئيس الدّير على الشرفة يُصوّب بيد واثقة بندقيته المهيبة باتجاه العصافير – كان يترك أثرًا لا يُنتسى في نفوس من يراه.
بالطبع لم تكن إطلالات الأب الرئيس على شرفته العزيزة فقط هي الّتي ترسخ في الذاكرة. إذ إنّ زوار الدير كانوا يتأثّرون، بالأكثر، بالأحاديث الّتي كان الأب أليبي يُجريها مع النّاس المجتمعين في الباحة من أعلى شرفته.
كانت الشرفة مطلّة على باحة الدّير الكُبرى. وحين يكون الطقس جميلاً، كان يستطيع الأب أن ينظر إلى ديره ويتحدّث مع الشعب، مُشرفًا، في الوقت عينه، على سير الأمور.
في السّاحة كانت تقف مجموعة من الحجّاج والسّيّاح وسكان “بيتشوري”. كانت المناقشات، في شأن الإيمان، أو أي حديث بسيط آخر مع الأب أليبي، تدوم ساعات. لم يكن يتأخر عن مد يد العون لكلّ من يطلبون مساعدة مالية. وعلى الرّغم من أنّ أعمال الإحسان كانت ممنوعة كليًّا في تلك الآونة، إلا أنّ الأب أليبي كان يتصرّف كما كان يرى مناسبًا. في ما يلي ما يتذكره الأرشمندريت نثانائيل:
“كان الأب أليبي يساعد دائمًا المعوزين: يُعطي الصّدقة، ويقدّم مساعدته لعدد كبير ممّن يسألونه العون. لكنّه هُدّد واضطهد عدة مرّات لأجل خرقه القوانين. إلاّ أنّه كان مدفوعًا بكلام الكتاب المقدّس الّذي يدعو إلى الرّحمة والرأفة، ومن ثمّ كان يؤكّد أنّ مَنْع إتمام هذه الأعمال أمر مستحيل، لأنّها جزء لا يتجزّأ من الحياة في الكنيسة المقدّسة الأرثوذكسية”.
وهناك ذكريات الشّماس “جورجي مالكوف”، عندما كان شابًا صغيرًا يدرس اللغات ويزور الدير بتواتر. “كان الأرشمندريت أليبي يحاول أن يجسّد، في حياته، وصية محبّة القريب. وكان يساعد، على قدر استطاعته، مرضى وفقراء كثيرين.
كنت ترى، أحيانًا، تحت شرفته، معوّقين وفقراء من كلّ حدب وصوب. وعندما كانت تنقصه الموارد، كان يمازح القادمين إليه قائلاً: “ليست الأموال جاهزة بعد، إنّها تجفّ! عُد غدًا، إذًا، يا خادم الله!”.
في حالات معيّنة، كانت المساعدة تجرّ المساعدة: مرّة ساعد الأب أليبي منكوبًا ليستقرّ. وعندما ضرب مرضٌ ماشيته، أعطاه مالاً ليشتري بقرة. وعندما علم، يومًا، أنّ “ب. ميلنيكوف”، وهو رسّام محليّ مشهور، احترق منزله غير البعيد من “إيزبورسك”، بعث له حوالة مالية كبيرة مع كلمة: “فقط للأيام الأولى”.
يذكر الأب نثانائيل أنّ للأب أليبي موهبة مذهلة كمخاطب. فلقد سمع الحجّاج، أكثر من مرّة، يقولون إنّهم سيمكثون في الدّير لفترة أطول، إذا كان الأب أليبي ليُلقي عظة أخرى عليهم.
في مواعظه كان يؤازر المحزونين، ويعزّي الصّغيري النّفوس: “يا إخوتي وأخواتي، لقد سمعتم النّداء لتشديد الحملة على الدّير، فلا تُنيخوا رؤوسكم، ولا تحزنوا، فهذا يعني أنّ مشاكلهم قد بدأت. رهيب أن ننضمّ إلى الجموع، الّتي تهتف، اليوم: “هوشعنا”، وبعد أربعة أيام: “خذه، خذه، اصلبه!” لذلك، حيث يسود الكذب، لا تصرخوا هتافات النّصر، ولا تصفّقوا! وإذا سألوكم: لماذا؟ أجيبوا: لأنّ هذا كذب! – لكن لماذا؟ – أجيبوا: لأنّ ضميري يقول لي ذلك”.
كيف تتعرّف إلى يهوذا في حياتك؟ قال السّيّد في العشاء السّرّي: “من غمس يده معي في الصّحفة فهو الّذي سيُسلمُني! (مت 26: 23)”. الأمر نفسه يحصل في حياتنا. تحرّزوا من التلميذ الوقح الّذي يشاء أن يوازي نفسه بمعلّمه، لأنّ المغرور المترفّع يحاجج رئيسه، ويريد أن يأخذ مكانه ويصير هو رئيسًا. انتبهوا ممّن يمسك الإبريق أوّلاً؛ إذ حين لا يكون الكبار قد أكلوا، بعد، يكون هذا المتفاخر قد أكل جيّدًا وتلمظ… هذا هو يهوذا في طور نموّه. لقد كان هناك اثنا عشر تلميذًا، وواحدٌ منهم كان يهوذا.
لذلك تذكّروا: إن لم يجلس الكبار، أوّلاً، إلى المائدة، فلا تجلس أنت. ومتى أخذ الكبار مكانًا، عندئذٍ تستطيع أنت أن تجلس إلى الطاولة بعد صلاة. وإذا ما أمسك الكبار ملعقتهم، فأمسكها أنت أيضًا. ومتى ابتدأوا بالطّعام، تستطيع أنت أيضًا أن تباشر ذلك”.
لم تكن كلّ الحوارات من الشرفة مثيرة وهادئة معًا.
ذات يوم، زارت وزيرة الثقافة “فورتسيفا”، وهي شخص مرموق ونافذ جدًا، ناحية “بوسكوف” مع مرافقين من الموظفّين المحليّين ومن العاصمة. في تلك السنّوات كانت هذه السّيدة يهابها الكثيرون لا فقط من مشاهير المثقّفين، بل حيثما حلّت أيضًا. وكما هي العادة، أعدّوا لها برنامجًا لزيارة الدّير. لكنّ الأب أليبي، لما سمع من أصدقائه الفنّانين، بتصرّفاتها وكُرهها المَرَضيّ للكنيسة، لم يذهب لاستقبالها، بل بعث بالأب نثانائيل الّذي رافق الزوّار في جولتهم الديرية.
فلمّا كان الوفد المميّز على وشك مغادرة الدير، أبصرت “فورتسيفا” رئيسَ الدير من أعلى شرفته يتحدّث إلى مجموعة من النّاس. فقرّرت أن تلقّن هذا الرّاهب درسًا، إذ لم يتنازل للقائها؛ وبذلك تُعطي درسًا للإداريّين المحلّيين، وتكون مثالاً حيًا عن النّضال ضد أفيون الدّين. فلمّا دنت من الجمع، قاطعته صارخةً:
– يا إيفان ميخايلوفيتف، هل أستطيع أن أسألك سؤالاً؟
فنظر إليها الأب أليبي مستاءً، لكنّه قال:
– تفضّلي، اطرحي سؤالك.
– قُل لي: كيف وجد يمكن إنسانًا مثقّفًا ورسّامًا مثلك أن يجد نفسه وسط هذه المجموعة من المعادين للثقافة؟
كان الأب أليبي شديد الصّبر. لكنّه لم يكن يسمح بأن يهين أحدهم الرّهبان في حضرته، فأردف:
– “لماذا أنا هنا؟” وحدّق الأب أليبي بهذه المرأة القوية كواحد من أمثال “إيفان فورونوف” الّذي خدم، قديمًا، في سلاح المدفعيّة، ثم تابع: “حسنًا، إذًا، سأخبرك… هل سمعت أنّي خُضت الحرب؟”
– لنفترض أنّي سمعت.
– هل سمعت أنّي ذهبت إلى برلين؟
– نعم، لقد قصّوا عليّ ذلك. لكنّي لست أرى أيّة علاقة. فإنّي لأستغرب كيف أنّ مواطنًا سوفيتييًا مثلك خاض الحرب…
فقاطعها رئيس الدّير، إنّما من دون عجلة:
– عندما كنت في برلين، عند الاستيئلاء عليها… قطعوا لي… (وهنا استعمل “إيفان ميخايلوفيتف فورونوف” تعبيرًا شديد الفظاظة أثار فيه ذكورته). فلم أجد لي ملاذًا، بعد ذلك، سوى في الدّير.
وساد صمتٌ رهيبٌ، تلاه صراخ النّساء، وهتافات الغضب، ونداءات وتهديدات. واندفع الوفد، مع السّيّدة المرموقة على رأسه، باتجاه بوابة الدّير!
وفي غضون ساعة، كان الرّئيس قد استُدعي إلى موسكو. في هذه المرّة، بدت الأمور جديّة. لكنّ الأب أليبي أجاب، بهدوء، عن كلّ الأسئلة الّتي طرحها عليه عملاء الـ”K.G.B.”6 قائلاً:
– لقد سألتني سؤالاً مباشرًا وصريحًا، فأجبتها بالطريقة عينها. لقد تكلّمتُ تمامًا باللّغة الّتي هي تفهمها.
أنّى يكن الأمر، فلم يكن لهذه الحادثة من نتائج سلبيّة. كانت هذه هي الحالة الوحيدة الّتي استعمل بها الأب أليبي هذا السّلاح!
أثار هذا الجواب الشهير، الّذي فيه الكثير من التحدّي، ثرثرات وافتراضات من شتى الأشكال والأنواع. ويروي “سابا يامشيكوف”، وهو مرمّم وناقد فنيّ كان يحبّه الأب أليبي:
”لقد سألوني: لماذا انصرف رجل بهذا الجمال إلى الدير؟ وكانوا يجيبون بأنّه جُرح جرحًا بليغًا، وفقد قدرته على الإنجاب… ذات يوم، هو نفسه تطرّق إلى الموضوع قائلاً: ”يا سابا، إنّ كلّ هذه الأحاديث عقيمة. كانت الحرب مروّعة وفظيعة إلى حدّ بعيد! فعاهدت الله أنّي، إذا ما نجوت سالمًا من هذه المعارك المرعبة، فسأعتزل في دير. تصوّر الأمر قليلاً: معركة ضارية، والدبابات الألمانية تعبر خطوطنا، ساحقةً كلّ ما يعترضها. وسط هذا الجحيم، أرى فجأةً قائدنا في المعركة ينزع خوذته، ويجثو على ركبتيه، و… يصلّي. نعم، نعم، كان يتمتم، باكيًا، الكلمات المنسية لصلاة تعلّمها، ويطلب من الكليّ القدرة، الّذي كان يهينه في الليلة السّابقة، الرّحمة والنّجاة! عندئذٍ فهمت أنّ كلّ إنسان يحمل الله في روحه، وفي يوم أو في آخر يعود إليه…“.
ابتكرت السّلطات طرقًا عديدة للتخلّص من الدّير. ذات يوم، صُودرت كلّ الأراضي الزراعية والمراعي بأمر من الحزب الشيوعي في “بيتشوري”. كان هذا في أوائل الصّيف. كان الدّير قد أخذ البهائم لترعى هناك، ووجب عليه، إذ ذاك، إعادتها إلى الزريبة على الفور.
في الفترة عينها، وبتوجيهٍ من موسكو، أحضر موظفو اللجنة المحليّة للحزب وفدًا كبيرًا من ممثلي الأحزاب الشيوعية الشقيقة إلى الدّير، ليستمتعوا بماضي الرّوسية. في البدء، كانت الأمور تسير بشكلٍ طبيعي. ولكن بينما كان أفراد هذه المجموعة، الّذي أتوا من أماكن مختلفة، يعاينون بإعجابٍ هدوء الدّير وجماله، ويتجوّلون بين أحواض الزهور، انفتحت فجأةً أبواب الزريبة على مصراعيها، وسُمع صوت زمجرة قوي لحرية استُعيدت، وبانت ثلاثون بقرة تابعة للدّير مع ثورٍ ضخم. كان الأب أليبي بنفسه قد خطّط لهذه العملية.
انطلقت البهائم، وزيلها مرفوع، خائرةً وسكرى بالحرية الّتي أُعيدت لها، لترعى الأعشاب وأزهار الأحواض، بينما لجأ ممثلو الحركة الشيوعية العالميّة إلى الاحتماء، صارخين بأعلى أصواتهم بلغاتٍ مختلفة مستغيثين. اندفع عمّال اللجنة المحليّة للحزب نحو الأب أليبي، فتنهد هذا الأخير وقال:
– اعذروني، لكنّي أشفق على هذه البهائم! لم يعد لدينا مرعى آخر، إنّنا مجبرون على أن نسمح لها بأن ترعى داخل الدّير.
في اليوم عينه، أُعيدت للدّير كلّ المراعي!.
يرى الأب نثانائيل أنّ أصعب تجربة كانت يوم تلقّى الدّير مرسومًا يمنع إقامة الخدمة في المغاور من أجل الرّاقدين. لم يعُدْ مسموحًا الدّخول إليها. وما سيلي ذلك كان إقفال الدّير. كان النّص يحمل توقيع أسقف بوسكوف. لكنّ الأب أليبي أمر بأن تستمرّ الخدم في المغاور كأنّ شيئًا لم يكن.
سارعت السّلطات البلدية لتفحص ما إذا كان الأب أليبي قد تلقّى التوجيه من رئيسه، فأكّد لهم ذلك. عندها سأله الموظفون مغتاظين:
– لماذا، إذًا، لا تمتثل؟
فأجابهم بأنّه لا يطيع الأمر لأنّه كُتب تحت الضغظ بسبب ضعف الأسقف. وختم:
– وأنا لا أُطيع النّاس الضعفاء، بالطبع، إنّما فقط أولئك الّذين يتمتعون بشخصية قوية!
واستمرّت الخدم في المغاور.
لم تعرف الحرب، الّتي شُنّت على الدّير، ولا يوم راحة! يذكر كاتب بوسكوف “فالنتين كورباتوف”: ”قبل الزّيارة الألف للجنة الدّولة بقصد إغلاق الدّير، أعلن الأرشمندريت أليبي أنّ الطاعون قد انتشر في الدّير، ولا يستطيع الوفد الدخول! رأست هذا الوفد “آنّا إيفانوفنا ميدفيديفا” رئيسة اللجنة الإقليمية للثقافة. فتوجّه الأب أليبي إليها بالحديث:
– سامحيني، فإنّي لست أخشى على رهباني الأغبياء. قصدهم، في كلّ حال، هو ملكوت السّموات. إنّما أخشى عليك أنت، آنا إيفانوفنا، وعلى قوّادك الّذين لست أستطيع أن أسمح بدخولهم إلى هنا. فإنّي لا أجد الكلمات اللائقة لأدافع عن نفسي في شأئنكم في ساعة الدينونة الأخيرة. لذلك، سامحوني، ولأنّني لن أفتح لكم الباب.
وها هو، للمرة الألف، يستقلّ الطائرة إلى موسكو، ويقوم بالخطوات اللازمة للحفاظ على الدّير، قارعًا كلّ الأبواب… لينتصر، في النّهاية، في هذه المرّة أيضًا.
وكما يميّز المحارب الحقيقي مكائد أعدائه، كذلك كان الأب أليبي يقاوم من يعادون الكنيسة عمدًا. لكنّه كان يتعامل بشكلٍ مغايرٍ تمامًا مع النّاس البسطاء، حتّى مع الّذين، لسوء بصيرتهم، لم يعلموا ماذا يفعلون.
بعد هذه القصص، الّتي سُردت عنه، قد يبدو غريبًا أن أقول إنّ أهم شيء في حياة الأب أليبي، بحسب أقواله، هو المحبّة. كانت المحبّة سلاحه الّذي لا يُقهر ولا يُتصوّر بالنسبة إلى العالم!
كان يقول: “إنّ المحبّة هي الصّلاة الأسمى. إذا كانت الصّلاة هي ملكة الفضائل، تكون المحبّة المسيحيّة هي الله، لأنّ الله محبّة… لا تنظروا إلى العالم إلا من خلال عدسة المحبّة، عندها تنحلّ كلّ مشاكلكم: سترون في أنفسكم ملكوت الله، وفي الإنسان أيقونة، وفي الجمال الأرضي ظلاً للحياة الفردوسية. ستعترضون على ما أقوله بالقول: “تستحيل على المرء محبّة أعدائه”؛ لكن، تذكّروا أقوال المسيح: “كلّ ما فعلتوه بأحد إخوتي هؤلاء الصّغار، فبي فعلتموه”. اكتبوا هذه الأقوال بأحرفٍ ذهبية على صحائف نواميس قلوبكم. اكتبوها إلى جانب الأيقونة، واقرأوها كلّ يوم”.
ذات ليلة، إذ كانت أبواب الدّير مقفلة منذ بعض الوقت، أسرع الحارس، مذعورًا، إلى رئيس الدّير، وأعلن له أنّ هناك قوّاتٍ مسلّحة ثملة تريد الدّخول عنوةً (علمنا فيما بعد أنّهم مجموعة من المظلّيّين، تلاميذ يحتفلون بنهاية سنتهم الدّراسيّة). وعلى الرّغم من أنّ السّاعة كانت متأخّرة، أصرّ الضبّاط اليافعون على أن يُفتح لهم، على الفور، كلّ كنائس الدّير، وأن تُنظّم لهم جولة، وتُترك لهم الحرية أن يحدّدوا المكان حيث يُخفي الآباء المتنسكّون راهباتهم! وأضاف الحارس مرتعبًا أنّ الضباط قد تسلّحوا بعارضة ضخمة يستعملونها كناطحة لهدم البوابة!
ذهب الأب أليبي إلى الجناح المُخصص له، ثم عاد مرتديًا سترةً عسكرية مُقلدة بسلسلة من الأوسمة، لبسها فوق جبّته. ثم غطّى كل ذلك بمنتيّته، ليخفي زيّه والأوسمة، واتجه نحو الأبواب المقدّسة مع الحارس.
وفيما كان لا يزال، بعد، بعيدًا، أدرك الأب أليبي أنّ الدّير يتعرّض لاعتداء حقيقيّ. فلما دنا من الباب، أمر أن تزال الأقفال، فاندفع الضبّاط إلى داخل الدّير، وتحلّقوا حول الرّاهب الشيخ المتستّر بمنتيّته السّوداء، مهدِّدين، وطالبين أن يزوروا الأمكنة مع دليل، وأن يكفّ الدّير عن فرض القوانين الكنسية على الأراضي السوفييتيّة، وتشريع أبواب المتحف الشعبي الّذي هو الآن ميراث أبطال المستقبل!
سمعهم الأب أليبي متطأطئًا رأسه. ثم رفع عينيه، ونزع منتيّته… لدى رؤيتهم سترته، وقف الضباط في وضع التأهّب، مشدوهين. نظر إليهم الأب مهدِّدًا، وسأل الضابط الأقرب إليه أن يناوله قبّعته العسكرية؛ فأعطاه إيّاها بطاعةٍ كاملة. تحقّق الأب أنّ بطانة القبعة، تحمل، فعليًا، كما هي العادة، شهرةَ الضابط مكتوبة بالحبر. بعد ذلك، استدار وعاد إلى الجناح المخصّص له. صحا الضبّاط من سكرهم ودهشتهم، ولحقوه بخطوات بطيئة. كانوا يتمتمون الأعذار، ويسألون أن تُعاد لهم القبّعة. شعر الشبّان بخطرٍ يلوح في الأفق. لكنّ الأب أليبي لم يجبهم إلى سؤلهم إلى أن وصلت المجموعة إلى أمام مقرّه، وتوقّفت في حيرة من أمرها؛ ففتح لهم الرّئيس الباب، ودعاهم إلى الدّخول.
في تلك الليلة، بقي إلى ساعة متأخّرة يكلّمهم، وأتحفهم بالطريقة الّتي هو وحده يُجيدها. قام هو بنفسه بالجولة، وأطلعهم على الكنائس القديمة، وكلّمهم على ماضي الدّير المجيد وحاضره المذهل. وفي النّهاية، قبّل كلّ منهم كما يُقبّل الأب أبناءه، وكافأهم بإفراط. رفضوا ذلك، مضطربين. لكنّه قال لهم إنّ هذا المال الّذي جمعه أجدادهم وأمّهاتهم سيكون نافعًا لهم.
كانت هذه حالة استثنائية لكنّها، لم تكن فريدة من نوعها. لم يفقد الأب أليبي، أبدًا، إيمانه بالقوة الإلهية القادرة أن تغيّر البشر، أيًا كانوا. كان يعلم، بالخبرة، أنّ كثرين من مضطهِدي الكنيسة صاروا مسيحيّين، إمّا سرًا، وإمّا علنًا، ربما بفضل التعابير القاسية والمُفعمة بالحقيقة الّتي سمعوها من فمه!
بعد أشهر، وربما سنوات، كان أعداء البارحة يرجعون إليه، لا بهدف إزعاج الدّير، بل ليقابلوا في شخص الرّئيس شاهدًا لعالمٍ آخر، راعيًا ومرشدًا روحيًا حكيمًا؛ لأنّ الحقيقة، الّتي تُقال من دون خشية، قد تبدو للوهلة الأولى مُرّة وغير مفهومة، لكنّها تبقى منقوشة في أذهان النّاس، وسينتقدونها، إلى أن ينتهي بهم الأمر إلى قبولها أو نبذها إلى الأبد.
في رسائله إلى الأسقف يوحنّا الّذي من بوسكوف، كتب الأرشمندريت أليبي: إن المقالات الصّحفية تعجّ بالأخبار المزعجة، والإفتراءات المقيتة على أناس طيّبين وصالحين، بالإضافة إلى إهانات موجّهة إلى أمّهات جنودٍ سقطوا في القتال، ووإلى أراملهم. هاك “نضالهم الأيديولوجي”: “طرد آلاف الكهنة والإكليريكيين، من بين النّخبة”. كم من زائر منهم أتى باكيًا، لأنّه لا يستطيع أن يجد وظيفة، حتّى كعلمانيّ؟ وليس لنسائهم وأولادهم ما يقتاتون به… إليك بعض العناوين في الجرائد الوطنية والمحليّة في عصرنا: “دير بوسكوف-بيتشيرسكي مركز الجهل والتحجّر الدينيّ”، “رقصة الـ”هاليلويا” الشيطانية”، “طفيليات في جببٍ”، “مخادعون في جببٍ”.
وهنا أيضًا رسالة موجّهة إلى أسقف بوسكوف، فيها يسرد الأب أليبي حادثة جديدة:
“يوم الثلثاء في 14 أيار من هذه السّنة 1963، أراد المدبّر “إيريناوس” أن يسقي حديقة الدّير كعادته الّتي درج عليها في السّنوات الماضية. نحن نجمع مياه الأمطار والثلج الذائب بوساطة سدٍ بُني قرب العرائش، ما وراء السّور. فعندما كان عمّالنا يضخون المياه، وصل ستة رجال، لحقهم اثنان آخران. كان أحدهم يحمل شريط قياس قَسَمَ به أرض البستان القديم، وأخذ يشتم العاملين فيه، ثم أمرهم بأن يكفّوا عن ضخّ المياه مؤكّدًا أنّها ليست ملكهم،. لكنّ عمّالنا حاولوا أن يواصلوا عملهم. غير أنّ الرّجل هرع صوبهم، وانتزع خرطوم الرّي منهم، فيما أخذ آخر، يحمل آلة تصوير، صورًا فوتوغرافية لنا…
قال المدبّر لهؤلاء المجهولين إنّ رئيس الدّير موجود، وإنّ عليهم أن يفسّروا الأمر له. اقترب أحدهم مني، فيما وقف آخر بعيدًا، وأخذ يصوّرنا. كان ثلاثة منهم فقط لا يزالون في المكان. فسألتهم:
– من أنتم، وماذا تبتغون منّا؟
فأجابني رجل يرتدي قبعة، من دون أن يعطي اسمه ولا مركزه، مردّدًا أنّ لا حقّ لنا بهذه المياه، ولا بالأرض الّتي نوجد عليها.
عندها قلت:
– لماذا لا تمنعون عنّا الهواء الّذي نتنشّقه، والشمس الّتي نستدفئ بها ما دامت المياه والهواء والكلّ ملككم، فماذا يبقى لنا، إذًا؟
ثم سألته للمرّة الثّانية من يكون ولأية غاية جاء؛ فاستمرّ بإخفاء هويّته؛ فقلت له:
“اسمي إيفان ميخايلوفيتف فورونوف. أنا مواطن في الاتحاد السّوفييتيّ، ومقاتل في الحرب العالمية الثّانية. رفاقي، الّذين يعيشون في حماية هذا السّور، هم محاربون قدماء، ومقعدو الحرب العالمية الثانية. لقد تركوا أرجلهم وأيديهم، وجُرّحوا ورضّضوا، وسقوا هذه الأرض بدمائهم، وطهّروا هذا الهواء من الظلمات الفاشستية. وبين رفاقي أيضًا عمّال مصانع، وعمّال حقول، وعجزة مُقعدون ومتقاعدون، وآباء شيوخ فقدوا أبناءهم في معارك تحرير هذه الأرض وهذه المياه. نحن، الّذين سكبنا دماءنا وقدّمنا حياتنا، ألا يحقّ لنا أن نستعمل هذه الأرض، وهذه المياه، وهذا الهواء والشمس، وكلّ ما انتزعناه من أيدي الفاشستية نحن وكلّ شعبنا؟ من أنتم؟ وبأي حقٍّ تتصرفون على هذا النّحو؟”.
فأخذوا يذكرون أسماء لجان إقلميّة ولجان محليّة وغيرها، وهم يتلعثمون.
وفيما هو مغادر، صرخ الرّجل الّذي كان يعتمر قبّعة: ”سامحنا، يا أبتي!“.
أجبته: إنّي أبٌّ لهؤلاء النّاس، هناك. أمّا لك أنت، فأنا “إيفان الرّوسيّ”، الّذي ما زالت لديه القوة أن يسحق البعوض، والبرغوث، والفاشستيين، وأيّة حثالة أخرى من هذا النّوع”!
أخبرنا الأب نثانائيل: “في بداية العالم ،1975 تعرّض الأب أليبي لنوبة قلبية للمرّة الثّالثة. كان ذكر الموت حاضرًا في ذهنه من قبل، وكان قد طلب أن نصنع له تابوتًا، وقد باركه ووضعه لديه في الرّدهة. وعندما كان يُسأل: “أين قلايتك؟”، كان يُشير إلى التابوت، ويقول: “إنّها هنا”! في آخر أيّام حياته، كان الرّاهب الكاهن “فيودوريت” بقربه، وكان يناوله القدسات كلّ يوم؛ وكمساعدٍ للطبيب كان يعتني به. في 12 آذار 1975، عند السّاعة الثانية صباحًا، قال له الأب أليبي: “إنّ والدة الإله قد حضرت. كم هي جميلة! أعطني طلاءً كي أرسمها”. فأعطوه! لكنّ يديه لم تطاوعانه، فإنّهما قد تعبتا من حمل الأثقال إلى الجبهة، فيأثناء الحرب العالمية الثانية. وعند السّاعة الرّابعة، رقد الأب أليبي بسلامٍ وهدوء!
خلال هذه السّنوات، كان لهذا الأرشمندريت السّوفييتيّ، أصدقاء أوفياء في المجالات العسكرية، وفي الأوساط المرموقة، يساندونه؛ وكان يتلقى زيارات مجموعات من الرّسامين، والعلماء، والسّياسيين، والكتّاب. وكان يشترك، بشكلٍ فعّال، في حياة بعضهم، لا فقط على الصّعيد الماديّ بل أيضًا ككاهنٍ ومرشدٍ روحيّ. وكانوا هم، بدورهم، مهما اختلفت توجّهاتهم، من أهمّها إلى أبسطها، يشدّدونه على المستوى الرّوحي!
وقد حُفظ، في أرشيف الأب أليبي، في دير “بسكوف-بيتشيرسكي”، جزء من مخطوط لـ”ألكسندر سولجينيتسين”، هو عبارة عن صلاة صغيرة ومبدأ حياة التزم به الرئيس دائمًا:
ما أسهل الحياة معك، يا ربّي!
ما أبسط الإيمان بك!
عندما تُحبَط نفسي أو يخترقها شكٌ
عندما لا يرى النّاس الأكثر فطنةً
أبعد من مساء النّهار
ولا يعرفون ماذا يفعلون في الغد،
تبعث لي اليقين الصّريح
بأنّك موجود، وأنّك ستسهر
على ألا تُعرقَل سبل الخير.
في ذروة المجد الأرضي، أَنْظُر، منذهلاً، إلى هذا الطريق الضيّق
الّذي ما كنت لأكتشفه وحدي،
طريق القنوط المدهش الّذي تمكنت، من خلاله، على الرّغم من كلّ شيء،
أن أُرسِل إلى البشرية ضياء أشّعتك.
وسأستمرّ بإرساله ما دامت هناك حاجة.
أنت ستَدَعني أقوم بذلك. وما لم أستطع أن أتمّمه
تمنحه أنت لآخرين ليتمّموه!
1عُرفت الحرب العالمية الثّانية بهذه التسمية في الرّوسيا.
2 جوزيف ستالين (1922 – 1952).
3 أورد “أوليفي كليمان” هذه الأرقام: بعد موت ستالين، بين العامَين 1953 و1959، عرفت الكنيسة الرّوسية ربيعًا قصيرًا. ففي العالم 1959 كان هناك 22.000 رعية (مقابل 54.000 في 1917) يخدمها 30.000 كاهن، وحولي 80 ديرًا، و8 معاهد لاهوتية و3 جامعات لتعليم اللاهوت. […] ٱبتداءً من العام 1960 ولغاية 1964، تحت حكم “خروتشوف”، أصبح عدد الكنائس حوالي 8.000، فقد ثلثا الكهنة تسجيلهم، وبقي 3 معاهد فقط، وجامعتان و16 ديرًا (معظمها ناحية بوسكوف وشمال بلاد البالتيك).
4 هي إذاعة راديو يبثّها الغرب المناهض للسلطات، ولكنْ ٱستطاع الشعب السّوفيتي ٱلتقاطها. إلى جانب ”صوت أميركا“ دعونا نذكر هنا ”إذاعة أوروبا الحرّة/الإذاعة الحرّة“ (Radio Free Europe/Radio Liberty)، الّتي أُسّست أثناء الحرب الباردة، وهي إذاعة خاصة كان يموّلها كونغرس الولايات المتحدة.
5 تبعًا لمعاهدة ألمانية – سوفيتية، ٱتسع الإتحاد السّوفيتي وضم خمس جمهوريات جديدة ومنها جمهورية كاريليا الفنلندية حيث كان يوجد دير “فالامو”. كانت هذه الجمهوريات قد ٱنتفت عندما ٱجتاحت ألمانيا الإتحادَ السّوفيتي، ولكنّها استُعيدت الواحدة تلو الأخرى عندما سار الجيش الأحمر ناحية الغرب. في هذه الحقبة، التجأت شركة “فالامو” الرّهبانية إلى “فنلندا” حيث أسّست ديرًا جديدًا عُرف بـ”فالامو الجديد” وهو ما زال قائمًا إلى يومنا هذا. بعد الحرب استُخدمت الجزيرة لأغراض نفعية: مزارع، مركز لاستقبال معوقي الحرب من الضباط الكبار… متجنبّين بذلك الأنظار. عام 1966، أُعيد فتح دير “فالامو” من جديد للزّوار وعام 1989، سُمح له بٱستعادت الحياة الرّهبانية. أُعيد الدّير إلى الكنيسة الأرثوذكسية عام 1992.
6 وهو جهاز الإستخبارات السّوفيتيّ.
المرجع:
Archimandrite Tikhon (Chevkounov) (2013), Père Raphail et autres Saints de tous les jours, Editions des Syrtes (Suisse).