الكنيسة والسلطة الكنسيّة

mjoa Wednesday August 14, 2013 163

يفيدنا تاريخ الكنيسة بأن قادة الكنائس، من بطاركة وأساقفة في المسكونة كلّها، أجمعوا، في أحيان كثيرة، على رأي واحد، اتّضح لاحقاً أنّه كان خاطئاً. وتمّ تصحيح هذا الإجماع الخاطئ بعد سنين من الجدالات اللاهوتية والنزاعات، التي لم تخلُ أحياناً من سفك الدماء. والإجماع الكنسيّ ليس معياراً، في ذاته، لتحديد الصواب من الخطأ، بل قبول الكنيسة، قادةً وشعباً، لهذا الإجماع عبر التاريخ هو المعيار الوحيد للحقّ.


الإجماع، إذاً، لا يكفي وحده كي يُعتبر معصوماً عن الخطأ، بل ينبغي أن يتوافق هذا الإجماع مع استقامة العقيدة كي يُعتبر مقبولاً في الكنيسة. من هنا، ألغت الكنيسة قرارات اتّخذها بعض المجامع التي دعيت في أوانها “مسكونيّة”، أي عالمية، شارك فيها معظم أساقفة الأرض. وبعدما اعتبرت هذه المجامع نفسها مسكونية، اعتبرتها الكنيسة نفسها، في وقت لاحق، “مجامع لصوصيّة”، يتناقض تعليمها وتعليم الكنيسة الحقّ.

في القرن السابع الميلادي أجمعت الكنائس، في الشرق والغرب المسيحيين، على تبنّي عقيدة “المشيئة الواحدة الإلهيّة في المسيح”. غير أن راهباً اسمه مكسيمُس (+662) اعترض قائلاً، إن هذا التعليم يخالف استقامة الإيمان، فاستدعاه بطرس بطريرك القسطنطينية، وسأله: “إلى أي كنيسة أنت تنتمي: أَإلى القسطنطينيّة أم رومية أم أنطاكية أم الإسكندريّة أم القدس؟ لقد توحّدت كل هذه الكنائس، فإذا كنت تنتمي إلى الكنيسة الجامعة، عليك الانضمام إلى إيماننا، حتى لا تكون في البدعة”.

فأجابه مكسيمُس: “إنّ الله خالق الكون أظهر أن الكنيسة الجامعة هي التي تشهد له باستقامة”. عندئذ هدّده بطرس بالحرم والخروج من الكنيسة، إذا لم يؤيّد الإجماع، فأجابه مكسيمُس بحزم وثقة: “ما أقرّه الله منذ الأزل تجدون خلاصته في ما أقوله أنا”. بمعنى آخر، أعلن القديس مكسيمُس أنه، هو وحده، الكنيسة في وجه الإجماع الخاطئ.

أمر الإمبراطور كونستانس الثاني بقطع لسان مكسيمس ويده اليمنى، ثمّ نفاه إلى القفقاس حيث توفي. لذلك، أطلقت الكنيسة عليه لقب “المعترف” بسبب الاضطهادات والتعذيبات، التي لم تجعله يتراجع عن موقفه بل زادته رسوخاً. وقد أعيد الاعتبار الى مكسيمس حين انعقد المجمع المسكوني السادس (681)، بعد تسعة عشر عاماً من وفاته، وأقرّ خطأ الإجماع السابق وصحّة إيمان مكسيمس.

إذا كان القائمون على الكنائس يخطئون أحياناً في الأمور الجوهريّة وفي تحديد العقيدة، كالمسألة التي تصدّى لها مكسيمُس، فهم، بلا شكّ، قد يخطئون في أمور أقلّ أهمية لا تمسّ جوهر الإيمان المسيحي ولا العقائد الأساسيّة. وفي هذه الحال، ينبغي ألاّ ينزلق بعضهم إلى اتّهام سواه بالكفر والخروج عن الإيمان، وألاّ ينزلق بعضهم الآخر إلى اتّهام غيره بالتعصّب وممارسة التكفير…

السلطة الكنسيّة، خارج إطار العقيدة المنصوص عليها وما يتّصل باستقامة الإيمان، ليس لها أن تمارس سلطتها، وبخاصّة حين يتعلّق الأمر بغير المنتمين إليها. ونحن حين نقول “السلطة الكنسيّة” إنّما نقصد تمييزها عن “الكنيسة”، أي شعب الله. السلطة الكنسيّة هي في الكنيسة، لا فوق الكنيسة، ثمّ إنّ الله ليس أسير المؤسّسات الكنسيّة وسلطتها. هو حرّ منها، والحمد لله، ولا يتقيّد بقراراتها وأوامرها. نعم، الله أكبر.

 

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share