مَن يضمن الآخر الوحدة أم الحقّ؟

mjoa Thursday September 12, 2013 225

الأكثرون يغارون على الوحدة أكثر ممّا يغارون على الحقّ! ومتى فعلوا ذلك، ساوموا على الحقّ بشكل أو بآخر! فرّطوا به! تنازلوا عنه بقدْر أو بآخر! كانوا مهيّئين للإغضاء عن الحقّ، جزئيًّا، وحتّى كلّيًّا، أحيانًا! أبدَوا استعدادًا لِلَيّ الحقّ! تذاكوا! لفّقوا! غالوا في استحداث الاجتهادات والتّبريرات والتّفاسير ابتغاء تحقيق الوحدة فيما بينهم، مأربًا، بأي ثمن! اهتمّوا بإبراز نقاط التّلاقي وإغفال نقاط الخلاف!

استحال البحث عن الحقّ لديهم بحثًا كلاميًّا عقليًّا تاريخيًّا! عمليًّا، وجهات نظر، مطالعة نصوص محض، نظريّات تاريخيّة، تلاق فكريّ بين مواقف متباينة، ومن ثمّ مقاربات تتوسّم، بالأَولى، القواسم المشتركة وما يزكّيها. وقد يسعى المتحاورون، في إطار مثل هذا التّوجّه الوجدانيّ، إلى اعتماد أسلوب البيانات المشتركة، الّتي يعتبرونها كافية للتّعبير عن الوحدة الّتي يصبون إليها، ولا مانع لديهم أن يَفهمها كلٌّ على طريقته ومن ضمن مفاهيمه الخاصّة! أو قد يتمسّك كلُّ فريق بمقولاته ليبقى منسجمًا مع تراثه وآبائه، فيما يتّفق الأفرقاء، جهرًا أو ضمنًا، على أنّ ما يعنونه واحد، وهو، من ثمّ، كاف للوحدة فيما بينهم! الوحدة على أساس زعم توفّر النّيّة! حتّى كلاميًّا ونصّيًّا، لا تعود هناك حاجة لنصوص واحدة جديدة مشتركة!

الكلّ، إذ ذاك، يصير على حقّ، على طريقته، وتستحيل الوحدة معطًى افتراضيًّا عاطفيًّا يجتنب كلٌّ، على أساسه، تكفيرَ الآخر! وهكذا يمسي الحقّ موضوعًا فكريًّا، إيهاميًّا، نسبيًّا! عمليًّا، يفقد الحقّ، بإزاء الوحدة المبتغاة، كلَّ قيمة، يضمحلّ! هَمُّ الوحدة يَطغى! ولكنْ، أيّة وحدة؟ الوحدة الاجتماعيّة، القبليّة، الإداريّة، الاستيعابيّة، السّياسيّة…! وحدة شكليّة، تلاقي مصالح ومطامح وانفعالات، تحالفات ظرفيّة…! محاور تتغيّر وتتبدّل في إطار وحدة مزعومة! بتعبير آخر، وحدات ظاهريّة ذات مضمون إنقساميّ تراكميّ! لا ثبات لأشكالها ولا ثبات لمكوِّناتها ولا أصالة لروحها! هاجس الوحدة، إن طغى، أطاح الحقّ، أفرغه من محتواه ولو استمرّ في الكلام عليه، وهو بحاجة لأن يستمرّ في الكلام عليه ليبرِّر ذاته، ما يجعل الحقّ جملة تصوّرات ليس إلاّ! الوحدة، إذ ذاك، تمسي صنيعة قصد الباطل متمظهرًا بهيئة الحقّ!

     في الحقّ تكون الوحدة أو تستغني عن الحقّ مهما ادّعت أنّها على حقّ! وما لم تكن في الحقّ، فإنّها تكون، كنسيًّا، وحدة مزيّفة، أو قل تلاقي أهواء! عمليًّا، لا تعود وحدة بالمرّة! يصير الغرضُ منها، كيانيًّا، تغييب الحقّ، ووجوديًّا عبادة البشريّة لذاتها!

     الحقّ أساس الوحدة في المسيح، أو لا تكون! هذا يستتبع التّسآل: “ما الحقّ”؟ أو “من الحقّ”؟ لأنّ “من” و”ما”، هنا، متداخلان، متّحدان!

     الحقّ الإلهيّ لا يتيح لك أن تكون على حقّ! الحقّ ليس معيارًا ما تقيس أقوالك أو مواقفك عليه. الحقّ، الّذي من هذا النّوع، ينبع من ضرب من الحسّ الإنسانيّ المشترك، أو من مسلّمات اجتماعيّة، أو من قواعد فكريّة، أو من مبادئ سلوكيّة… فإن كنتَ على حقّ، في مثل هذه الأطر، كنتَ منسجمًا والنّظم، المعلَنة أو غير المعلَنة، بِغَضّ النّظر عن أخلاقيّتها، الّتي يعتمدها المجتمع، والأفراد فيه، أسسًا لِزِنَة ما للبشريّة وتقييمه. وهذه ليست على ثبات. تتغيّر من جماعة إلى جماعة، وحتّى ضمن الجماعات الأصغر، في الجماعة الكبيرة الواحدة!

     الحقّ الإلهيّ، الّذي نحن في صدده، يتيح لك أن تكون فيه أو أن لا تكون، أن تقيم فيه أو أن لا تقيم! هذا يستتبع أن يكون فيك أو أن لا يكون، أن يقيم فيك أو أن لا يقيم! وهذا يجعل أنّ الحقّ الإلهيّ ذو طبيعة كيانيّة! تكون فيه على علاقة عميقة كاملة بالله أو لا تكون. وما دام الحقّ الإلهيّ مسألة علاقة بالله، فهذا معناه أنّه مرتبط، عضويًّا، بمحبّة الله، أو قل بالله المحبّة، لأنّ الله محبّة، ما يعني أنّ الحقّ الإلهيّ يتضمّن أو يفترض أن تكون أنت فيه على علاقة محبّة بالله، وإلاّ ما أمكنك أن تعرفه. وبما أنّ علاقة المحبّة مع الله، لكي تكون كاملة وكلّيّة، تحتِّم أن تكون أنت فيه وهو فيك؛ لذلك، الله المَحبّة هو الله الحقّ، في آن معًا، والحقّ يكون فيك، بالكامل، بالكلّيّة، همُّ الحقّ، هاجسُ الحقّ، الشوق والتوق إلى الحقّ، أقول الحقّ يكون فيك وأنت فيه أو لا تعرف الحقّ، ولا يمكنك أن تعرف الحقّ! على هذا الصّعيد، لسنا، بعدُ، في مستوى الحقّ كمعيار خارجي، إنسانيّ اجتماعيّ، بل في مستوى الحقّ كموقف كيانيّ عميق، كإيمان، كالتزام لا زيغ فيه، منّا، بمحبّة الله وبالله المحبّة نحو الصّيرورة واحدًا، كيانيًّا، والله! كلُّ وحدة، في كنيسة المسيح، مستمددة من الشّفافيّة الكاملة لسعي الإنسان/المؤمن، بإخلاص كامل، إلى الاتّحاد بالله، إلى التّألّه، إلى الإقامة في الله، وإلى الاستدعاء المتواتر لله لكي يقيم فينا، في كلّ ما نعمله ونفكّر فيه ونقوله، وفي كلّ ما نُنشئه من حضارات في هذا الدّهر!

     متى أخذنا، في الاعتبار، هذه المقاربة، أعلاه، للحقّ الإلهيّ، فلا يسعنا إلاّ أن نَلقى البونَ شاسعًا بين الحقّ، في إطار الوجدان الكنسيّ، والحقّ خارجه! على هذا، كلُّ تعاطٍ للإلهيّات، وللحقّ الإلهيّ، في إطار بشريّ بحت، وفي إطار المقاربة البشريّة البحتة للحقّ، إنْ هو سوى كُفرٍ بالحقّ الإلهيّ وتكريسٍ لعبادة الإنسان نفسَه صنمًا! اللاّهوتيّ الّذي لا يحتضن، كيانيًّا، بالكامل، موقف التّوق الكلّيّ إلى محبّة الله وحقِّه، لا يعرف الله ولمّا يَرَه، وهو، من ثمّ، كاذب وجاهل، مهما كدّس من معارف حول الله ومحبّة الله وحقّ الله! اللاّهوتيّ الحقّ هو السّالك، بعمق، في القداسة! من هذا المعين، أوّلاً، يستمدد اللاّهوتيّ معرفته بالإلهيّات ويؤدّي شهادة حقّ لله! كلّ ما عدا ذلك من معارف علميّة كتبيّة، مفيدًا يصير إن كان هذا هو خطَّ سيره، وإلاّ أداةً في يد إبليس يصبح، ومضغةً لأهواء نفسه يستحيل!

     من هنا، أنّ الوحدة، في الكنيسة، لا تأتي إلاّ من التزام الحقّ الإلهيّ الوجدانيّ بالكامل. والوحدة تأتي كإفراز منه، وكنتيجة تلقائيّة له، كما البهاء من النّور متى أشرق، والدّفء من الحرارة متى دبّت، والفرح من القلب متى فاض بالمحبّة! الوحدة، في الكنيسة، هي مناخ المحبّة، في الحقّ، حسب تعبير القدّيس يوحنّا الحبيب! هذا أساس الوحدة! أما الوحدة الظاهرة، بشريًّا أو ماديًّا، فَتَجَلٍّ للمحبّة في الحقّ، أو لا قيمة لها، أيًا تكن شعاراتها أو اعتقاداتها!

     ذاك اللّعب على وتر النّصوص والعواطف والكلام والمصالح وتمسُّكِ النّاس بما لهم، باسم الحقّ، والتماس الوحدة البشريّة فيما بينهم بأيّ ثمن، باسم الله، إرضاءً لهوى ولأهواءٍ فيهم، هذا المسرى لا يتعدّى كونه لَغْوًا ونحرًا للحقّ وتزييفًا، مهما بوّق المبوِّقون بالوحدة باسم الحقّ! ما ينبغي التّعب فيه ليس الوحدة، في الكنيسة، بل الحقّ! ساعتذاك تأتي الوحدة من ذاتها ساعِيَةً، رضيّةً! مستحيل أن تأتي وحدةٌ حقّانيّةٌ تدوم، على حساب الحقّ، بل في الحقّ! الوحدة عطيّة بلا تعب لمَن يتعبون في الحقّ بلا كلل! نشترك فيها ولا نبتدعها!

     ويل لجماعة استحال فيها الحقّ باطلاً والباطلُ حقًّا، هذه يموت الحقّ فيها والإحساسُ بالحقّ، وتستقرّ في جبّ الكذب والوهم، وتستعيض عن مسيح الرّبّ بضدِّه، باسمه، وعن كنيسته بهذا الدّهر، بقوّة كبريائها!

 

الأرشمندريت توما (بيطار)
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي – دوما

 

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share