إن المناولة او سرّ الشكر كالمعمودية والميرون والزواج والتوبة والكهنوت تُسمّى أسرارا لأن بها شيئًا عظيمًا من صميم الله.
نحن أمام شيء عميق محجوب عن الأنظار، ولكن الانسان يستطيع كلما ازداد إيمانه ان يقترب من فهمه. هذا لا يعني أن هناك من يفهم أكثر من غيره بالعقل. الله محاط بنور لا يُدنى منه. هنا اللاهوتيّ القدير والجاهل في الكنيسة يتساويان. لا يستطيع احد منا أن يحلل بعقله أسرار الله. الفرق بيننا ليس فرقا بين عالم وجاهل، لكن الفرق كله بين انسان يصلّي ويدرك في قلبه وانسان لا يمارس ولذلك لا يعرف.
تعلمون ان السيد أخذ التلاميذ الى علية صهيون وهناك أخذ خبزًا وقدّسه وبارك وكسر وأعطاهم قائلا: “خذوا كلوا هذا هو جسدي الذي يُكسر من أجلكم لمغفرة الخطايا”. وهذه الصيغة هي التي اعتمدتها الكنيسة في القداس مقتبسة اياها من الاناجيل ومن رسائل بولس. ثم بعد أن تناولوا طعام العشاء أخذ الكأس وقال: “اشربوا منها كلكم، هذا هو دمي الذي للعهد الجديد الذي يهـرق عنكـم وعن كثيـرين لمغـفـرة الخطايا”. تناول الخبز ثم الخمـر كما كان يفعل رب العائلة اليهـودي في العشاء الذي يقيمونه ليلة السبت ويتذكرون خروجهم من مصر. عنـدما تنـاول السيد ذلك العشاء في العلّية قـام بطقس عادي ولكنه صبغه بمعنى جديد. أعطى تلاميذه الخبز والخمر لكي يصبحوا مبصرين الى موته مشتركين في قيامته. اذن هذا الذي نتناوله معا في القداس الالهي مدخل لنا في سر الموت وفي سر القيامة. يسوع المسيح في ميلاده وصليبه وقبره وقيامته يأتي الينا في الخبز والكأس صباح كل أحد.
“اصنعوا هذا لذكري. كلما أكلتم من هذا الخبز وشربتم من هذه الكأس تُخبرون بموت الرب الى ان يجيء”. قبل ان يجيء المسيح ثانية، لنا أن نطلبه، ان نلتمس حضوره في ما بيننا. انه يأتي الينا بشكل خفيّ. لن يأتي بمجد الآن. سوف يأتي بمجد في اليوم الأخير، ولكنه قبل ذلك يأتي بصورة غير منظورة على الأرض، متواضعا مخفيا عن الأنظار. لما ارتفع عنا وعد قائلا: “ها انا معكم كل الأيام الى انقضاء الدهر”. كيف يكون معنا الى انقضاء الدهر؟ بالمناولة: “خذوا كلوا هذا هو جسدي… اشربوا منه كلكم هذا هو دمي”. أي انني سأكون معكم في كل حقيقتي كما كنت هناك في فلسطين. أعيش بينكم كما عشت بين اليهودية والجليل. هناك كان التلاميذ يرون فيّ جسدا، وجها، يدين وقامة، وانتم الآن في كل قداس تجتمعون فيه بالصلاة والمحبة والتوبة والتواضع، تتقدمون الى الكاهن بخبز وخمر. يرفع هو هذا الخبز ويرفع هذه الكأس، وبسبب محبتي أجعل هذه الخبزة جسدي وهذا الخمر دمي، اجعلهما كياني، إنها انا. فإذا أخذتموها لن تكونوا آكلين خبزة عادية، ولكنكم تكونون آخذين نفسي وروحي وألوهيتي وكياني.
المسيح محبة لأنه أراد ان يجمعنا الى الله أبيه عن طريق المحبة. وجه من وجوه هذا السر الذي قلما ننتبه اليه هو أن المسيحيين يصبحون كيانا واحدا عندما يتناولون معا. بولس يقول: “انتم جسد واحد لأنكم تأكلون من الخبزة الواحدة” (١ كورنثوس ١٠: ١١)، ولذلك تلاحظون أن المسيحيين يستغفرون قبل المناولة كما يفعل الكاهن، اي ان الواحد يطلب العفو، الغفران، من الثاني قبل ان يتناول. المعنى العميق لهذا أن هذا السر (المناولة) هو اتحاد بين المؤمن والمسيح من جهة وبين المؤمن والمؤمن من جهة ثانية. في المناولة يصبح كل منا مسيحا. في لحظة مباركة من لحظات الوجود لا يعرف الانسان إن كان هو على هذه الأرض أم صار في السماء. لا يعرف إن بقي من تراب أَم صار من نور. لا يعرف إن بقي انسانا أَم صار إلهًا.
جاورجيوس مطران جبيل والبترون وما يليهما (جبل لبنان)