الرّعيّة بين النّهضة والانحطاط!

mjoa Friday September 27, 2013 161

مستحيل أن تكون الرّعيّة، في آن، في حال نهضة وفي حال انحطاط. إمّا يسود وجدان النّهضة ويُحارَب كلّ مظهر من مظاهر الانحطاط، دونما استثناء، وإمّا يسود وجدان الانحطاط ويُفرَّط بكلّ مظهر من مظاهر النّهضة، دونما مراعاة لحقّ. العينان السّليمتان تنظران، معًا، في اتّجاه واحد. لذا الوجدان النّاهض لا يساوِم ولا يقبل الشِّرْك! قد يسكت على مضض، لكنّه لا يستطيع أن يقول عن الحقّ إنّه باطل، ولا عن الباطل إنّه حقّ! الوجدان المنحطّ لا يبالي. شكليّ. نفعيّ. مساوِم. لا عقيدة له يلتزمها بل اعتقادات يبتدعها. ولا تراث حيًّا بل قناعات يعقلنها. ولا عبادة بل طقوس مجوّفة. ولا حياة روحيّة بل مبادئ نظريّة. ليس الله لديه هو المحور بل تصوّراته واستنساباته بشأن الله!

     في هذا الإطار، هناك رعيّة ناهضة وهناك نفس ناهضة. في كِلا الحالَين، الموقف الكيانيّ العميق من الله والآخرين والذّات كلّيٌّ، لا مطرح فيه للتّجزئة أو النّسبيّة. الشّيء نفسُه يُقال عن الانحطاط. مهما تكلّم على النّهضة، لا يمكنه، بإزائها، إلاّ أن يكون كذوبًا في شأن ما لله!

     ثمّ، في النّهضة والانحطاط ما هو غير منظور، وما هو منظور يعبِّر عمّا هو غير منظور، على صورة الإنسان في طبيعة تكوينه! فيه ذاك وفيه هذا. ولعلّ أبرز ما ورد، في هذا الشّأن، قولُ يوحنّا الحبيب، في رسالته الأولى: “إن قال أحد إنّي أحبّ الله وأبغض أخاه، فهو كاذب. لأن مَن لا يحبّ أخاه الّذي أبصره، كيف يقدر أن يحبّ الله الّذي لم يبصرْه؟” (4: 20).

     على هذا، لا يكفيني، روحيًّا، أن تقول لي مَن أنت لأعرف مَن تكون حقًّا. أحتاج لأن أعرف كيف تحيا لأعرف مَن أنت فعلاً! الكلام في العقيدة، حتّى القويمة، يَصدُق أو يُكذَّب، في فيك، في إطار ما تكنّه وتفعلُه معًا! في المدى الانحطاطيّ تسمع فتفرح، لكنّك تنظر فتحزن!

     الكنيسة الحجريّة الّتي تبنونها، وكذا القاعة، مهما كانتا فخمتَين، ليستا، البتّة، من علائم النّهضة الرّوحيّة في الرّعيّة. هاتان، في عين الله، لا قيمة لهما! مكانا اجتماع لا أكثر! هيكلُ أورشليم نُقِض على غير رجعة! لم يَعُد الله يقيم في بيوت من حجر! والّذين بَنَوه وزيّنوه لم يروموا، في العمق، أن يمجِّدوا الله، ولو حسبوا ذلك، لأنّهم صلبوه، بل كانوا يعظِّمون أنفسَهم، تحت جنح الله! نجتمع في أيّ مكان!

لا يهمّ! في كاراج، إذا لزم الأمر؛ في بيت من بيوت المؤمنين؛ في مخزن تحت الأرض؛ على سطح البناية؛ تحت إحدى السّنديانات! في أيّ مكان! “للرّبّ الأرض وكلّ ما فيها” (مزمور 23: 1)! المهمّ كنيسةُ الحجارة الحيّة، كنيسةُ المؤمنين بالرّوح والحقّ، كنيسةُ الإيمان الفاعل بالمحبّة (غلاطية 5: 6)! هذه هي الكنيسة الّتي تقدِّس المكان، كلَّ مكان، وليس المكان هو الّذي يقدِّسها! في مثل هذا الموضع الحيّ سُرَّ أن يقيم الله! “أنتم هيكل الله الحيّ” (2 كورنثوس 6: 16)، وروح الله ساكن فيكم! لا مانع أن نجتمع في كنيسة تراثيّة جميلة ورثناها من الّذين سبقونا! ولا حتّى هناك مانع أن نبني كنائس لائقة واسعة تَسَعُ المؤمنين، إذا ما كانت الظّروف المعيشيّة مؤاتية، والأيّام أيّامَ بحبوحة. الكنائس المبنيّة بتقوى وجماليّة روحيّة فرحٌ وتعزية! لكنّ روح شركة المؤمنين هي الّتي تجعلها بهيّة، سماويّة! بغير ذلك تستحيل متاحف، ربما جميلة، ولكنْ ميتة، لا روح فيها! أن نتغاضى عن الفقراء والمرضى، لنبني كنائس الحجر؛ أن نمسك عن إطعام الجيّاع وإيواء المهجّرين والمشرّدين ومداواة المعتلِّين، بحجّة الجمع، في المصارف، لحاجات إعمار الكنائس الحجريّة، جهلٌ وعمى وكفرٌ بالله! هذا عين الانحطاط! هذا إصنامٌ لِمَا لله!

     النّهضة هي في أن نجتمع، أي في أن ننصهر، في أن نطلب أن نصير واحدًا في المسيح، في أن يحبَّ أحدنا الآخر، في أن نكون قلبًا واحدًا وفكرًا واحدًا وعقيدة واحدة وتراثًا واحدًا ويدًا واحدة! ميزة النّهضة، في كنيسة المسيح، أوّلاً وأخيرًا، كامنة في محبّة المؤمنين بعضهم للبعض الآخر، وفي محبّة الغريب كالنّفس، حتّى يصير قريبًا لنا، ولا سيّما في محبّة الّذين لا يحبّوننا! نستعبِدُ، أوّلاً، أنفسَنا، أحدُنا للآخر! نبذل! نضحّي! نبكي مع الباكين ونفرح مع الفرحين، باسم المسيح، وكما للمسيح! إذ ذاك، فقط، تتيسّر العبادة ويحلو التّسبيح والتّمجيد! العبادة في الرّوح والحقّ تأتي من المحبّة في الحقّ! قبل أن نتعاطى، طقوسيًّا، ليتورجيا الكنيسة الحجريّة، ولكي تُقبَل قرابينُنا، خبزًا وخمرًا، على مذبح الله، علينا أن نمدّ قرابيننا على مذبح الأقربين والأبعدين، على مذبح المحتاجين والمهمَّشين والمضنوكين! أي فرق بين العبوديّة والعبادة؟ في العبوديّة يستعبدوننا، مرغَمين، ويستعبدُ أحدُنا الآخر، وتستعبدنا أهواؤنا! هذا قهر وإذلال ونزع لإنسانيّة الإنسان! في العبادة يَستعبِد الواحد منّا نفسَه لله في الآخرين، إخوةً! وهذا بذلٌ وتضحية وعطاء ومحبّة! هذا إفراغ للنّفس من ذاتيّتها التماس مشيئة الله، وهذا تخطّ لمواتية خطيئة الإنسان التماس روح الحياة الأبديّة! العبادة فعلُ محبّةٍ لله في الطّقوس، والمحبّة فعل عبادة لله في النّفوس!

     وإلى المحبّة، لا تقول النّهضة إلاّ الحقّ ولا تصنع ولا تشهد إلاّ للحقّ! والحقّ أن نسلك في مخافة الله ومحبّته وأن نتمِّم وصايا الله وأحكامه وأن نطلب رضاء الله وعزاءه! “غيرة بيتك أكلتني”! لا فقط لا تشترك النّهضة في الباطل في شيء، بل لا تسكت، البتّة، عن الباطل، في هنّة! “لا تشتركوا في أعمال الظّلمة غير المثمرة”، قال الرّسول، “بل بالحري وبِّخوها” (أفسس 5: 11)!

 

*    *    *    *

 

    في رعيّة المسيح، ليس أحد لنفسه. الفردانيّة مَرَضٌ من روح هذا الدّهر، وتاليًا من روح أمير هذا الدّهر! لا أثر فيها لروح الله! محبّةُ الله، ومن ثمّ الإخوة، ليست فيها، لأنّ محبّةَ الله لا تطلب ما لنفسها بحال! والفردانيّة لا تطلب إلاّ نفسها بالكلّيّة! حتّى لو استبانت، في الشّكل، أنّها تمتدّ صوب الله ونحو الآخرين، فإنّها تفعل ذلك طلبًا لنفسها في الله وفي الآخرين! الفردانيّة محبّة معكوسة، لا أثر فيها لمحبّة الله! محبّة الذّات ومحبّة العالم من مقلع واحد! محبّة العالم حضارةُ محبّةِ الذّات، محبّةِ البشريّة لذاتها! لذلك قيل: “محبّة العالم عداوة لله”! ولذلك، أيضًا، كما الخطيئة شوكة الموت، الفردانيّة شوكة الانحطاط! فحيث الفردانيّة لا إمكان نهضة بالرّوح والحقّ، بل إفراغٌ للنّهضة من مضمونها الإلهيّ والإبقاءُ عليها شكلاً، من قبيل الكذب والتّمويه الشّيطانيَّين تضليلاً!

     على هذا، التّضادُ هو بين النّهضة والانحطاط، ووجوديًّا، بين الشّراكة والفردانيّة. من هذا المنطلق، النّهضة والانحطاط، أو قل الشّراكة والفردانيّة تفرض معادلة بسيطة، واضحة، صريحة، في أيّ مسعى من مساعي الحياة على الأرض. خذ، مثلاً، موضوع الرّاحة. إذا سلكتَ في الشّراكة، ومن ثمَّ في النّهضة، فأنت تطلب الرّاحة الدّاخليّة، راحة الكيان والقلب والنّفس. هذه تأتيك متى اهتممت بالتّعب من أجل الله، حفظًا لوصايا الله، ومن ثمّ بالتّعب من أجل الآخرين، لتريح الآخرين! تأتيك الرّاحة، إذ ذاك، من ذاتها. تكون متعَبًا في الجسد، ولكنْ فرِحًا، مرتاحًا، وفي سلام في القلب. هذا الفرح والرّاحة والسّلام يغمرك لدرجة أنّك لا تعود، فقط، غير مبالٍ بتعب الجسد، بل تجدك وقد ابتُلع تعبُك فلا تعود تشعر به، وحتّى، تتجدّد قواك بشكل غريب عجيب لا يقبل التّفسير المنطقيّ!

أمّا إذا سلكت في الفردانيّة، ومن ثمّ في الانحطاط، فإنّك تَلقى نفسَك طالبًا الرّاحة الجسديّة والتّنعّم وتعظّم المعيشة. ولكنْ، ويا للعجَب، كلّما استرحت في هذا السّبيل، وجدتُك، داخل نفسك، وقد انحطّت قواك الجوّانيّة، تعاني الفراغ والقلق والاضطراب! تستزيد من راحة البدن والتّنعّم وسيرة رغد العيش، فيعمق فراغُك ويزيد قلقُك ويشتدّ اضطرابُك! أخيرًا تستغرق في راحة البدن حتّى الإدمان والخدَر والموت الدّاخليّ! هكذا تكون المعادلة: إمّا تعبٌ من أجل الله والإخوة فراحةٌ حتّى الامتلاء بالرّوح، وإمّا راحة من أجل الذّات فتعب حتّى التلاشي بالموت!

     هكذا كلّ ما تتعاطاه في دنياك ويوميّاتك: تطلب الغنى لنفسك فلا يأتيك إلاّ جوعٌ للغنى! لا شيء يُشبعُك! فراغ لا قرار له! تظنّ أنّك بغناك تهدأ نفسُك فتلقاك قلِقًا على غناك، على نحو متزايد، بلا حدود! استثمارات، بورصة، سعي بلا هوادة وراء تكديس الأموال، هموم، هموم، هموم! تحسب أنّ غناك يوفّر لك الطّمأنينة، فتجدك في خوف واضطراب، في داخلك، لا يفارقانك! تطلب الفقر، كأن لا شيء لك، لا شيء بالمعنى الكامل للكلمة، ليكون اعتمادُك على ربّك كلّيًّا، ولِتُطعمَ الإخوة من لحمك وتسقيهم من دمك، فتلقاك، في روحك، ممتلئًا، ويعطيك ربّك كلّ شيء. “كأن لا شيء لنا ونحن نملك كلّ شيء” (2 كورنثوس 6: 10)!

     كلام؟!

     صحيح!

     ولكنْ، مَن له أذنان للسّمع فليسمع!

     هذا كلام الحياة الأبديّة!

     مَن يضمنه؟! ربّك!

     “أمّا أنا وأهل بيتي فللرّبّ”، قال موسى، كليم الله! إلى هذه الشركة انتماؤنا!

 

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share