الله قبل الخلق الحسي كان في نفسه ملامسا مخلوقاته بنوع من الملامسة أي كان باثا فيها ما كان غير مخلوق. يلامس بمشيئته ولا يلامس بطبيعته حتى يبقى الفاصل الكينوني قائما بينه وبين الخلق. ولكن ما تعني محبوبية المخلوق؟ ما العلاقة الداخلية بين الواجد والموجود؟ في العقل وجب القول بأن ثمة فاصلا كيانيا بين الواجد والموجود. ولكن كيف نفهم الحب الإلهي للمخلوق؟ هل من فاصل بين المحب والمحبوب؟ هل الله يتعدى ليلتصق؟ ما اللصوق الإلهي بنا؟ هذه أشياء نفهمها بالحب ولا نحتاج إلى فلسفتها. ولكنا نحيا بما لا نفهم عقليا اذ نحيا بما خبرنا.
الشيخ محمد مهدي شمس الدين الذي أحبني كثيرًا كان دائمًا يحذرني من الحلولية. أنا أفهم ان الحلولية فزاعة المسلم لأنه يخشى ان يمس التنزيه الإلهي. والمسيحي لا يخشى الحلولية كثيرا لعلمه ان التجسد الإلهي يحفظ نزاهة الله عن المحسوس ولا يمزج بين الطبيعتين الإلهية والبشرية في المسيح اذ الوحدة بينهما قربى وملامسة وتداخل بلا انصهار. أفهم ان يكون المسلم في حالة رعب من الحلولية لكونه يتهيب الكلام عن الاتحاد بين الله والإنسان. يخشى كلاما يشتمّ منه نوع من انحلال اللاهوت في الناسوت. نحن المسيحيين المستقيمي الرأي أقمنا قواعد تمنعنا من خلط اللاهوت بالناسوت فإذا قلنا ان ابن الله صار انسانا منعنا الكلام عن تحول اللاهوت فيه إلى ناسوت. إقامة الناسوت في لاهوت المسيح يحفظ كلا منهما على خواصهما. اللاهوت عندنا لا يصير ناسوتا. ابن الله يضم اليه الناسوت ضما أو تبنيا والخواص متداخلةً تبقى على ذاتيتها. في اللاهوت الأرثوذكسي نحن نعرف ان المخلوق يبقى خارج الطبيعة الإلهية وان كانت قوة هذه مبثوثة في المخلوق من دون انصهار أو تحول أو تشوش. هذه أشياء نعرفها بالقلب. الله في عطائه لا ينتقص من كيانيته وحبنا له لا يعدم كيانيتنا. هناك تواصل حتى التلامس مع حفظ الاستقلال للكيان الإلهي وللكيان البشري.
هناك رؤية دقيقة جدًا في الكنيسة الأرثوذكسية للعلاقة بين الناسوت واللاهوت في المسيح. بين اللاهوت والناسوت في السيد ليس من انصهار ولكن ليس من تباعد. هذا هو السر الذي لا نتخطاه بالكلام. لا ينتقص التجسد شيئا من ألوهية الرب يسوع ولا يزيد في الطبيعة شيئا على بشرية الإنسان. هذا لقاء في سر الآب.
ماذا أعني بقولي ان بين الله والانسان ملامسة؟ الواضح عندنا ان ليس من اختلاط أو امتزاج بين الالوهة والبشرية.
الله يبث منه شيئًا في الإنسان. لكنه، لا يشرك الإنسان في طبيعته. هذا يكون شركا أي اختلاطا أو تمازجا أو انصهارا بين الطبيعتين. في اللاهوت الأرثوذكسي هذا غير ممكن. ما التلاقي إذاً بين الله والإنسان اذا تجاوزنا التعبير الشعري لنقول شيئا كيانيا؟ في ما اجتهدنا فيه في المسيحية الأرثوذكسية ليس هناك اندماج بين الطبيعة الإلهية والبشرية. نحتنا في الأرثوذكسية كلمة جديدة ان ثمة تلاقيا بين القوى الإلهية والقوى البشرية على نحو لا نفهمه عقليا ولكننا نختبره في الحب. بين الله والإنسان لقاء إلهي من حيث ان ثمة فينا شيئا غير مخلوق يتقبل الله وأتجاسر ان أقول ان فينا شيئا يحتضن الله.
في المخلوق قوة إلهية هي ليست حلولا أو انصباب طبيعة في طبيعة. واضح في اللاهوت الأرثوذكسي، وهو لاهوت آباء الكنيسة، ان الإنسان يتأله كما ان الله تأنس في المسيح ليس بمعنى ان طبيعته تتحول إلى طبيعة إلهية ولكن بمعنى انه يكتسب قوى إلهية. اللاهوت من دون ان ينفطر (ينكسر) يلتقي الناسوت فينا. يداخله ولا يتحول إليه من حيث الطبيعة. اذا كان عندك حب لله حقيقي تفهم هذا. كل منا على صعيد الخبرة الروحية وليس على صعيد القياس العقلي.
هذا صعب الكلام فيه لأنه ذوق إلهي. النفس ذائقة الله والا لما استطاعت ان تتحدث عنه. الله ليس موضوع إنشاء. انه خبرة حب يصوّرها اللسان كما يستطيع. والقديسون يعرفون كل هذا في ذوقهم لله وينقلون إلينا الحق من قلوبهم وتتقبله قلوبنا. مشكلة اللاهوت الحقيقية انه لا يسكب في قوالب عقلية. اللاهوت الحقيقي حسنا بالله ولا يأتيك من كلام. ينزل اليك أو لا ينزل لأنه من الله الذي لا توضع حقيقته في قوالب. اللاهوت قداسة وهذه ليست زينة كلامية. اللاهوت في كنيستي ليس معلومات عن الله اذ الله لا يعرف بالكلمات. مشكلة اللاهوت الذي نكتبه انه حديث في الله وليس الله. لذلك كان اللاهوت الذي تؤمن به كنيستنا قداسة وليس علما تتلقفه من الكتب أي ان اللاهوت حياة تقرن بكلام او لا تقرن بكلام. بعض من كبار القديسين لم يكتب شيئا ولكنهم تكلموا. المسيح لم يكتب شيئا ولو كان قارئا للكتاب الإلهي.