لستُ، ههنا، في معرض التّعبير عن موقف رسميّ، في شأن علاقة الرّومية الأرثوذكسيّة، شعبًا، بغيرنا من المسيحيّين. لا أحد كلَّفني بذلك ولا كلفت به نفسي. كذلك لا أحسبني أعبِّر عن وجهة نظري الخاصّة في الموضوع، ولا عن وجهة نظر شريحة من أبناء الأرثوذكسيّة الرّوميّة. ليست المسألة مسألة وجهات نظر. إذًا لا نحن في معرض إطلاقيّة ولا في معرض نسبيّة في الرّأي!
كلّ ما في الأمر أنّي أُعبِّر – وهذا حال، بل واجب كلّ مَن كان على الأرثوذكسيّة، في الحقيقة – أقول أُعبِّر عن الوجدان الكنسيّ التّراثيّ الأرثوذكسيّ كما تكوّن لديّ. أعبِّر عنه، طبعًا، على طريقتي وضمن محدوديّتي، وأنا مدرك أنّ ما أقوله قد يكون الموقف الحقّ لكنيستي بدقّة وقد يأتي منقوصًا. الوجدان العامّ للكنيسة يبقى هو الحكم. في أيّ حال، لا عصمة عندنا لا لجماعة ولا لفرد. العصمة لروح الرّبّ، أحيانًا في شخص وأحيانًا في جماعة! وكلٌّ عرضةً للمساءلة والتّنقيح في إطار محبّة الرّبّ يسوع المسيح. فقط مَن يتفرّد ويستكبر ويعتبر نفسه فوق أن يُنقِّحه الإخوة، في الحقّ، يَشْرُد، ويُطالَب! أذكر قصّة أحد آباء الجبل المقدّس أنّه باشر، يومًا، عمل بناء في ديره دون ترخيص رسميّ. فاستُدعي إلى المخفر ووجّه له رئيس المخفر لومًا. فما كان من الأب إلاّ أن ضرب للشّرطيّ مطّانيّة. ثمّ اقترب منه ومدّ يديه وكفّه الأيمن فوق كفّه الأيسر، وقال له مطأطئ الرّأس وهو شيخ جليل: “سامحني، أخطأت، بارك”! فتطلّع إليه الشّرطيّ بتعَجُّب، وقد سَكَنَ غضبه، وقال له: “سامحك الله، سلام عليك، مبارَك”!
أمّا بعد، من هذا المنطلق، فعلاقتنا بغيرنا من المسيحيّين غير قابلة، بطبيعتها، لأن تُقنّن أو لأن تُحدَّد ببيان أو قرار. كلّ ما هو حيّ لا يمكنك أن تتعاطاه على نحو آليّ. وكلّ ما هو من الواقع لا يمكنك أن تغيِّره بنظريّة أو بمرسوم. والأه
مّ الأهمّ، كلُّ ما هو إلهيّ بشريّ – وهذه هي طبيعة كنيسة المسيح – لا يمكنك أن تَقْصُرَه على ما هو بشريّ، كائنًا ما كان تدبيرُك في شأنه! على هذا، فإنّ إجابتك عن السّؤال بشأن علاقتنا بغيرنا من المسيحيِّين، محكومةٌ بثوابت لا يمكنك إلاّ أن تأخذها في الاعتبار.
أوّلاً . الكنيسة واحدة، كانت ولا زالت وستبقى، لأنّها المسيح عينُه. ذِكرُنا، في دستور الإيمان النّيقاويّ القسطنطينيّ، لكوننا نؤمن بكنيسة واحدة جامعة مقدّسة رسوليّة، لا هو من قبيل ما كان حاصلاً ثمّ اختلّ، ولا هو من قبيل التّمنّي. ما ليس واحدًا هو العالم المسيحيّ لا الكنيسة الّتي يتكلّم عليها دستور الإيمان. ولا تماهٍ بين الاثنين! المسيحيّون، أو بكلام أدقّ، مَن يُسَمَّون أو يُعتبَرون مسيحيّين، هم المنقسمون بعضهم على البعض الآخر. وهم افترقوا، في الحقيقة، لأنّ ثمّة فيهم مَن اختلّت علاقته بربِّه! أمّا الكنيسة فلا تحتمل روح الفرقة! تكون منها وفيها أو لا تكون، ومن ثمّ واحدًا والآخرين أو لا تكون! وأن تكون منها وفيها رهنٌ لا فقط بانتمائك إلى ما يُعبِّر، بشريًّا، عن إيمانها، نصوصًا وطقوسًا وعادات، بل، بالأَولى، عَبر ما هو بشريّ، بانتمائك إلى ربِّك، شخصيًّا، في إطار الجماعة الكنسيّة، في الرّوح والحقّ! هذا الأمر الأخير لا يجوز أن يُتعاطى كتحصيل حاصل. كما لا يجوز الإعراضُ عنه أو التّراخي فيه والاستعاضة عنه بتأكيد ما هو، بشريًّا، معبِّر عن الإيمان القويم، معيارًا كافيًا للانتماء إلى كنيسة المسيح. عندك هنا ما هو روحيّ، غير منظور، ما لا يمكنك الإمساكُ به ولا جعله تحت مجهر الفكر البشريّ، هذا ما يشكِّل أساسَ ومَتْنَ انتمائك إلى ربِّك وإلى كنيسته، وإلاّ فأنت تتعاطى الكنيسة شكلاً، على نحو أجوف، الأمرُ الّذي يجعلها، في وجدانك، في عمق وجدانك، صنمًا، كما يجعلك تعبد الله صنمًا لا روحًا، أدريتَ أم لم تدرِ. والله، كما قال الرّبّ يسوع المسيح للمرأة السّامريّة، روحٌ، “والّذين يسجدون له فبالرّوح والحق ينبغي أن يسجدوا” (يوحنّا 4: 24).
ثانيًا . على هذا لا وحدة، في المبدأ، بين المؤمنين إلاّ في المسيح، بالرّوح والحقّ. ماذا يعني هذا القول؟ يعني أنّه لا وحدة محض أفقيّة بين مؤمن، أو مسمّى مؤمنًا، وآخر، أو بين جماعة، تُعتبر كنيسةً محلّيّةً، وجماعة أخرى، بل متى كانت هذه الوحدة وحدةً مع الله، في المسيح، في الرّوح والحقّ، أوّلاً. وما لم تكن الوحدة، أوّلاً، مع الله فإنّه يستحيل عليها أن تكون وحدة كنسيّة مع البشر. أفقيًّا، والحال هذه، تستحيل الوحدة (Oneness) ضربًا من الاتّحاد (Union) لا يختلف في تكوينه، في العمق، عن اتّحادات ونقابات وجمعيّات العمّال والموظّفين وسواها في المجتمع إلاّ بشعاراته! هذا ليس وقفًا على مَن هم من كنائس متباينة بل شامل مَن يُحسَبون من كنيسة واحدة! فالاتّحاد بين البشر، في طوائف، أمرٌ ربّما توارثوه وهم يميلون إليه، في كلّ حال، على نحو تلقائيّ، أوّلاً لشعورهم بالضّعف والعجز فُرادًى، وثانيًا لأنّ في الاتّحاد استقواءً وشعورًا أكبر بالأمان، وثالثًا لأنّ في الاتّحاد تلاقيًا لما هو مشترك، بشريًّا، بين فئة وأخرى!
ثالثًا . هذه الثّوابت، بإزاء الواقع الرّاهن للمؤمنين، بكلّ ذبذباته وأوهانه وعثراته، لا تتيح لنا، من الانتماء إلى كنيسة المسيح، إلاّ تبيُّنُ ما ليس من الكنيسة، لا تبيُّنُ ما هو من الكنيسة. معيار الانتماء، في الحقيقة، داخليّ. المعيار الخارجيّ هو ما يُحدّد ما يقطع، على نحو ظاهر، عن الله. مثل ذلك الهرطقة كما حدّدها القدّيس مرقص أسقف أفسس لمّا قال: “كلّ حيدان عن الإيمان القويم [المسلَّم مرّة إلى القدّيسين]، ولو قليلاً، هو هرطقة! في هذا الشّأن، قيل، مرّة، لأحد الآباء النّسّاك المستنيرين: أنتَ إنسان مدَّعٍ!
فقال: هذا صحيح! فقيل له: أنتَ إنسان متكبِّر! فقال: لا شكّ أنّي كذلك! فقيل له: أنتَ إنسان هرطوقيّ! فقال: كلاّ، لست أنا كذلك! فسُئِل: لماذا قبلتَ أن نقول عنك إنّك مدَّعٍ ومتكبِّر، ولم تقبل أن نقول عنك إنّك هرطوقيّ؟! فأجاب: لأنّ الهرطقة تقطع عن الله! ما هو منظور، ما هو محسوس، في الكنيسة، خارطةٌ رسمها الرّبّ يسوع وتلقّفها الرّسل وخبروها وأسلموها، بروح الرّبّ، لمَن قبلوها وخبروها وتوسّعوا فيها، بالرّوح عينه، ثمّ نقلوها لمَن ولدوهم بالرّوح والحقّ، وهؤلاء للقدّيسين الّذين خلفوهم، الّذين تعاطوها، بدورهم، بالرّوح ذاته والطّريقة ذاتها، ثمّ بثّوها، بأمانة، في إطار التّراث الحيّ، الّذين جاؤوا بعدهم، وهكذا دواليك إلى أن وصلت إلينا، ونحن نوصلها إلى مَن يلحقوننا وفق المسار عينه. إذًا عندك خارطة طريق للانتماء إلى كنيسة المسيح، لكنّ الخارطة ليست انتماءً، ولو كانت مُعينة، على الانتماء، بل السّلوكُ بحسب هذه الخارطة، وإلى المنتهى، هو يحقِّق الانتماء! فقط مَن يَثبت قويمًا، إلى المنتهى، بإزاء ربّه، يخلص! في الكنيسة هرطقةٌ جعلها الرّبّ الإله، من قبيل التّعاون بينه وبين الإنسان، تحت حكم البشر: كلّ ما تربطونه على الأرض يكون مربوطًا في السّماء… ولكنْ، في الكنيسة، أيضًا، وبالأَولى، هرطقة داخليّة، تقطع عن الله، وحده اللهُ، علاّم القلوب، يَحكم فيها: عدم نقاوة القلب! الإيمان القويم، عند ربِّك، في نهاية المطاف، قلب نقيّ! هكذا يتجلّى لديه! ما أسلمه الرّبّ الإله للنّاس، معيارًا قويمًا، أمانةً، مهمٌّ وضروريّ، لا شكّ في ذلك، لكنَّ ما يُسلمه النّاسُ لربِّهم، قلبًا نقيًّا، هو القصدُ والمرتجى! وحدهم أنقياء القلوب يعرفون الله، يعاينونه!
رابعًا . قولُ ربِّك لك في العالم: أُريد رحمة لا ذبيحة! ارأفوا بالخطأة! “نطلب إليكم أيّها الإخوة: أنذروا الّذين بلا ترتيب. شجِّعوا صغار النّفوس. أسندوا الضّعفاء. تأنّوا على الجميع” (1 تسالونيكي 5: 4)! القاعدة هي المحبّة! “لتصر كلّ أموركم في محبّة” (1 كورنثوس 16: 14)! لكنّ المحبّة لا تكون إلاّ في الحقّ! المحبّة الّتي تتغاضى عن الحقّ وتحابي الوجوه وتغضّ الطّرْف عن الهرطقة باسم الوحدة، ليست من الله ولا من كنيسة الله الّتي اقتناها بدمه، بل من السّقوط والخطيئة والإنسان العتيق أفرادًا وجماعات! لسنا في إثر المحبّة المغمَّسة بأهواء النّفس والجسد بل نطلب المحبّة المغمَّسة بروح الله، المحبّة الّتي تفرح بالحقّ لا بالإثم، وتتمسّك بالحقّ كاملاً تحت أيّ ظرف! فوق المشاعر وفوق العواطف وفوق المصالح، بحسب هذا الدّهر، نتمسّك بحقّ الإنجيل إلى المنتهى! بذا نحبّ الإخوة والعالم، بالمحبّة الّتي من فوق، الّتي إن ومتى ذقناها نمدّها إلى النّاس، وإن لم نذقها لا يكون لنا ما نمدّه لهم غير الخواء والكلام الأجوف. هذه هي شركة المحبّة في الحقّ، فيما بيننا، ولا شركة لنا، في المسيح، إلاّها! “الّذي رأيناه وسمعناه نخبركم به، لكي يكون لكم أيضًا شركةٌ معنا. وأمّا شركتنا نحن فهي مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح. ونكتب إليكم هذا لكي يكون فرحُكم كاملاً” (1 يوحنّا 1: 3 – 4)!
هذا، عندي، برحمة الله، ما يحكم علاقتنا بغيرنا من المسيحيِّين في كلّ تفصيل!