يذكر القديس بولس الرسول في رسالته إلى أهل غلاطية أنه بعيد اهتدائه إلى الإيمان المسيحي انطلق إلى “ديار العرب”، ثم رجع إلى دمشق (1، 17). و”ديار العرب” كانت تعني آنذاك شبه الجزيرة العربية والأردن وسوريا الجنوبية وصولاً إلى دمشق. وكانت تضمّ مملكة الأنباط والبتراء العربية وجرش وفيلادلفيا (عمّان الحالية) وبُصرى وحوران. ومن الراجح أن يكون بولس قد ذهب إلى بلاد العرب المتاخمة لدمشق، إلى تلك الصحراء الجبلية الجرداء، إلى مدينة بُصرى وجوارها.
في بداية القرن الثاني الميلادي أطلقت الإمبراطورية الرومانية اسم “ولاية العربية” على بلاد الأنباط بعدما تمّ إلحاقها بأراضي الإمبراطورية. وشهدت مدينة بُصرى ازدهاراً زراعياً وتجارياً وعمرانياً غداة إعلانها عاصمة للولاية عام 106 على عهد الإمبراطور تراجان.
لا ريب في أن ديار العرب، وبخاصة عاصمتها بُصرى، هي من أولى المناطق التي اعتنق سكّانها المسيحية. فموقعها القريب من فلسطين، حيث عاش المسيح، جذب إليها الرسل منذ بدايات انطلاقهم حاملين البشارة الإنجيلية إلى أطراف المسكونة كافة. وورد في التراث الكنسي أن طيمن الرسول، أحد الشمامسة السبعة، قد أقيم أسقفاً على بصرى. وقد شارك أساقفتها في العديد من المجامع الكنسية المحلية والمسكونية على السواء. وكتب المقريزي أن متّى الرسول هو “أوّل مَن صدع بالإنجيل في بُصرى”. كما ورد عند الطبري ذكر “أسقف العرب الغسّانيين”.
في القرنين الخامس والسادس بلغت المسيحية كل قرى حوران ومدنها حتى أصبح كل سكان ولاية العربية مسيحيين. واشتهرت العربية بالحياة النسكية، وتكاثرت الأديرة التي لا يزال بعضها أو بعض آثارها قائمة إلى اليوم. وحظي الرهبان برعاية وحماية الأمراء الغساسنة الذين شيّدوا بعض تلك الأديار على نفقتهم. وكان للرهبان فضل كبير في نشر الإيمان المسيحي بين القبائل العربية التي اعتنقت المسيحية. وقد تأسّست في ولاية العربية أسقفيّات عديدة منذ القرن الرابع، وتكاثر عددها في كل المناطق والمدن التي سيطرت عليها القبائل العربية وانتشرت فيها، نذكر منها، إضافة إلى بُصرى: جرش، عمّان، مأدبا، درعا، صنمين، سويداء، شهبا، وصولاً إلى حرّان والرصافة وتدمر وبعلبك… بعلبك التي يتبيّن مما ذكره البلاذري عن صلح القائد الإسلامي أبي عبيدة بن الجرّاح لأهلها المسيحيين، عرباً وغير عرب، وجود مسيحيين عرب في المدينة أيام الفتوحات. منذ اللحظة الأولى لنشأة الكنيسة، نطقت المسيحية باللغة العربية. فيوم العنصرة، يوم حلّ الروح القدس على التلاميذ، يوم “امتلأوا كلّهم من الروح القدس وطفقوا يتكلّمون بلغات أخرى كما أعطاهم الروح أن ينطقوا”، يوم دُهش الحاضرون، ومنهم العرب، كيف يسمعون الرسل الجليليين “ينطقون بألسنتنا بعظائم الله” (أعمال الرسل 2، 1-11)، نطق الله بالعربية.
في ذلك اليوم، قبل ألفَي عام، نطق الله بالعربية. وبالعربية انتشر الله وكلمته وروحه وإنجيله في المدن والقرى والبراري والبوادي، وفي الكنائس والصوامع، وفي الصلوات والأصوام والأدعية والترانيم، وفي حيوات القدّيسين والشهداء والأبرار والنسّاك والرهبان.
تبنّى الله العربية وجعلها مسيحية تشهد له ولكنيسته الحية على الدوام. عمّدها بالروح والماء والدم. وستظلّ المسيحية العربية وفيّة لهذه الأمانة النفيسة، هذه المعموديّة التي تحصل مرّة واحدة وإلى الأبد. ولن يسع أحد أن يقتلعها من جذورها الضاربة في الماضي والحاضر والآتي من الدهور.