قايين وهابيل

mjoa Monday October 21, 2013 684

يحدّثنا كتاب التكوين عن سقوط آدم وحواء فــي العصيــان والخطيئــة، فكـان جـزاؤهما الخـروج مـن الفردوس والموت، “فإنّك ترابٌ وإلى التراب تعود” (٣: ١٩). قبل السقوط، لم يُنجب آدم وحواء أولادًا، “إذ كانا يحاكيان الملائكة”، وفق ما قاله القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم (+ ٤٠٧). أمّا بعد السقوط، فيذكر كتاب التكوين أنّهما أنجبا ثلاثة أبناء: قايين، وهابيل، وشيت (بعد مقتل هابيل). فحدث أنّ كلاًّ من قايين وهابيل قدّما تقدّمة للربّ، “فنظر الربّ برضى إلى هابيل وقربانه، ولكن إلى قايين وقربانه لم ينظر برضى (…) فاغتاظ قايين جدًّا وعبس وجهه”، فقام وقتل أخاه هابيل (تكوين ٤: ١-١٥).

لماذا تقبّل الله تقدمة هابيل ولم يتقبّل تقدمة قايين؟ يخبرنا كاتب الرواية أنّ الله قال لقايين: “لماذا اغتظتَ ولماذا عبس وجهك؟ إذا أحسنتَ عملاً رفعتُ شأنك. وإذا لم تحسن عملاً، فالخطيئة رابضة عند الباب، وإليك تتلهّف، وعليك أن تسود عليها” (تكوين ٤: ٦-٧). تقبّل الله تقدمة هابيل لأنّه كان أحسن عملاً من أخيه قايين، والمقصود بالعمل هنا هو المجاهدة ضدّ الخطيئة. وهذا ما تشير إليه الآيتان بوضوح من حيث التضادّ ما بين “أحسن العمل” والخطيئة. تقدّمة هابيل قُبلت في نظر الله لأنّها أتت من قلب صادق، فيما رُفضت تقدمة قايين لأنّها أتت من قلب خاضع للخطيئة.

في هذا السياق يقول القدّيس أفرام السريانيّ (+٣٧٣): “قال الربّ لقايين: “لماذا غضبتَ ولماذا عبس وجهك؟”؛ عليك أن تكون متكسّر الوجه من الحزن، عوضًا من أن تستشيط غضبًا وعليك أن تذرف الدموع، عوضًا من أن يعبس وجهك… لكن، إنْ فعلتَ ما هو حَسن، قبلتُ تقدمتك مع تقدمة أخيك المختارة، وإلاّ فلن تنال الرضى. وستكون الخطيئة رابضة بالباب بانتظارك… ولكن، عوضًا من أن يعمل قايين بما أمره الربّ لتُغفر خطيئته، قدّم أخاه ذبيحةً”. لم يبدأ شرّ قايين بقتله لأخيه، بل قبل ذلك حين رفض دعوة الله إليه كي يتوب ويقوم بالأعمال الصالحة، فيُرضي الله كما أرضاه أخوه هابيل.

قايين قتل أخاه هابيل، وذلك ليس نتيجةً لعدم رضى الله عنه بقدر ما هي نتيجة الخطيئة الرابضة في قلبه بإرادته الحرّة. فالقدّيس سمعان اللاهوتيّ الحديث (+١٠٢٢) يقول: “لماذا صار قايين قاتلاً أخاه؟ لأنّه بإرادته الشرّيرة آثر نفسه على خالقه، وانقاد لأفكاره الشرّيرة، وتلظّى من الحسد، فأَقدم على قتل أخيه”. غير أنّ الله يمنح لقايين فرصةً أخرى كي يتوب عن جريمته، فيسأله: “أين هابيل أخوك؟”، فيجيبه قايين: “لا أعلم! أحارسٌ أنا لأخي؟” (تكوين ٤: ٩). يقول أفرام السريانيّ تعليقًا على هذه الآية: “ظهر الربّ على قايين ظهورًا لطيفًا، حتّى، إذا تاب وندم، شفاه وكان لجريمة القتل التي ارتكبتها يداه غافرًا. أمّا إذا لم يتب فإنّه يعاقبه عقابًا مريرًا على قدر حماقته الشرّيرة. فاستطار قايين غضبًا عوضًا من أن يندم، وأجاب العليم الأعلم الذي سأله عن أخيه وهو يستعر غضبًا: لا أعلم، أحارس أنا لأخي؟”.

حين رفض قايين أن يتوب عن خطيئته، قال له الله: “صوتُ دم أخيك يصرخ إليّ من الأرض. والآن ملعون أنت من الأرض التي فتحت فمها لتقبل دم أخيك من يدك… طريدًا شريدًا تكون في الأرض” (تكوين ٤: ١٠-١٢). اللافت هنا أنّ الله لم يقل: “صوت أخيك يصرخ إليّ…”، بل قال: “صوت دم أخيك…”، وفي ذلك إشارة إلى الجريمة التي ارتكبها قايين، وإلى العقاب الذي سيناله نتيجة دم أخيه المسفوك. ويرى أوريجنّس العلاّمة (+٢٣٥) في دم هابيل رمزًا لدم الشهداء كافّة، فيقول: “إنّ ما قيل عن هابيل، الذي أزاله من الوجود قايين الجائر قاتل البشر، يطبَّق على الذين سُفكت دماؤهم ظلمًا. إنّ قوله: “صوت دم أخيك يصرخ إليّ من الأرض” ينطبق أيضًا على كلّ الشهداء”.

                يلاحظ القدّيس كيرلّس الأورشليميّ (+٣٨٦) أنّ العقاب الذي تلقّاه قايين يعبّر عن محبّة الله اللامتناهية للبشر وعن رغبة الله بأن يتوب الإنسان إليه لا أن يموت بخطيئته، فيقول: “إنّ قايين، أوّل مولود لبشر صار قاتلاً لأخيه، ومخترعًا للشرور، ورئيسًا للقتلة، وأوّل الحسّاد. بماذا حُكم عليه بعد أن أزال أخاه من الوجود؟ “طريدًا شريدًا تكون في الأرض”. الخطيئة عظيمة، والعقاب خفيف”. ويذهب يوحنّا الذهبيّ الفم في الإطار نفسه إلى القول بأنّ هذا العقاب كان هدفه توبة قايين، فيقول: “يبدو أنّ الله أعدّ للعقاب طريقةً تُمكّن قايين من أن يتحرّر من خطيئته”.

                يقول القدّيس أمبروسيوس أسقف ميلانو (+٣٩٧): “الخاطئ عبد للخوف، وعبد للجشع، وعبد للغضب. وعلى الرغم من أنّ إنسانًا في وضع قايين يظنّ نفسه حرًّا، إلاّ أنّه كان أكثر عبوديّة ممّا لو كان تحت أقدام الطغاة”. وأمبروسيوس نفسه يلاحظ أنّ “قايين كان خائفًا من أن يُقتل، وكان لا يعرف إلى أين يهرب. فالشرّ يتعاظم ويتكاثر كلّما مورس، إذ لا حدود له أو اعتدال”. من تلك العصور السحيقة إلى يومنا هذا، ما زال الإنسان يقتل أخاه الإنسان، وما زال الإنسان يفضّل العبوديّة للخطيئة، وما زال الشرّ يستدعي الشرّ… غير أنّنا لن نفقد الرجاء بأنّ دم هابيل المسفوك، الذي يرمز إلى دم المسيح، سوف ينتصر على السيف، وقد انتصر.

 

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share