انعقد هذا الاسبوع المجمع الأرثوذكسي الأنطاكي برئاسة البطريرك يوحنا العاشر العائد من روما و الفاتيكان. تحدياتنا كبيرة في هذا الزمن العربي الرديء، وتفرض ضرورة التحرك السريع لمجابهة الأزمات المتنامية، ولوضع أسس الرؤية المستقبلية لحضورنا في مجتمعات العالم العربي. نرجو أن يكون قد تكوّن لدى المجمع والآباء اقتناع في هذا الاتجاه. فالبطريرك يوحنا الذي بدأ بتظهير بعض من معالم هذا الدور الأنطاكي المتميز المنشود، لا يستطيع التقدم لوحده. علينا التقدم ككنيسة على مستويات عدة.
الأوضاع الاستثنائية تتطلب خطة استثنائية للتحرك، شاملة و منهجية، تبدأ أولا بمراجعة نقدية جريئة لعمل الكنيسة وتموضعها وخطابها في نصف القرن الماضي، لتحديد السقطات و التجليات، إن داخليا لجهة طرق محكوميتها أم خارجيا لجهة توثبها في المجتمع وقضايا الشأن العام، وتنتهي ثانيا، بخطة طريق كنسية شاملة لمأسسة كنسية سليمة تنقلنا من “هم” المُحافظة على الوجود إلى “رجاء” الحضور الرائد في مجتمعاتنا.
معاناة شعبنا تفرض علينا هكذا مراجعة نقدية وهكذا استشراف للمستقبل، للخروج من “الملة الطائفية” إلى “كنيسة المسيح”، إن أردنا أن نبقى هنا ونستمر بحرية وكرامة لا لُبس بهما. فالفكر الأقلوي مُتنامي حتى عندنا. بينما المطلوب العودة إلى الأرثوذكس “الطائفة الجسر” التي تسعى لبناء دولة المواطنة و الشراكة الكاملة. هل نقرأ صحيحا في الشرق تحرك البابا فرنسيس في الغرب؟ أين نحن من تحولات الثورة الكنسية، المُتمِّيزة والجريئة التي يقودها في الكنيسة الكاثوليكية على صعد عدة؟ تحدياتنا مشتركة في جوهرها وإن اختلفت الحيثيات، وهي تطرح مشكلة محكومية الكنيسة وبعدها المُتنامي عن معايير الواقعية، والحداثة، والوداعة والتواضع والتعاضد والاهتمام بالآخر وبالفقراء، وكلها ضرورات لبشارة إنجيلية فيها حداثة تحاكي تحديات عالم اليوم، لكي يفهم و يؤمن.
فعلينا أن نتساءل مع البابا فرنسيس: “هل لا زالت الكنيسة هذا المكان الذي يُدفئ القلب ؟”. هذه الصرخة أطلقها البابا من أمام الشباب في البرازيل ليُشير إلى حال الكنيسة المُتراجعة في عالم اليوم. بالنسبة إليه، الحل السليم يأتي من التوصيف السليم. فهو يقول أن التراكمات التاريخية جعلت الكنيسة تتمركز في مؤسسات طغى عليها فكر “الإدارة” على نهج “البشارة” الجريئة. وهرمية التنظيم الدهري طغت في الكنيسة على رؤية التدبير الإلهي. والفرِّيسيَّة الجديدة المُتنامية في الكنيسة، قتلت حرارة الروح الرسولية فيها. واللاهوت الأكاديمي أخذ مكان لاهوت الصلاة. والفكر الإداري المالي أفسد الكثيرين وأبعد الكنيسة من فرح العطاء. فأمست مؤسسة هرمية جامدة، مُترهلة، مُحافظة، غير قادرة على فهم و مُخاطبة حداثة عالم اليوم و تحدياته.
الثورة الكنسية التي يقودها البابا فرنسيس تقضي بإعادة تصويب الوجهة والوسيلة. هو يُريد إخراج الكنيسة من الأطراف وإعادتها إلى وسط المُعادلة، لتعود كنيسة بشارية. يقول أن الكنيسة خدمة و ليست سلطة. يُشبِّهها بمستشفى حرب بعد المعركة، و يدعوها للاهتمام بالجرحى و المُصابين. يقول بضرورة المجمعية والشورى على مثال الكنيسة الأرثوذكسية، معلنا بذلك انتهاء النظرة للهرمية الكاثوليكية التقليدية عندما يقول “علينا أن نمشي سوية، معا: الأشخاص، الأساقفة و البابا”.
ثم يقول بجرأة وتمييز “أن الإنجيل هو قبل العقيدة”، مريدا العودة إلى النقاء الإنجيلي الرسولي، العودة إلى الأصول بدون أصولية. يبتعد الباب من كل مظاهر الغنى الكنسي و الأبهة الليتورجية و يُمارس الوداعة و البساطة والاتضاع في كل شيء ساعيا أن يكون نموذجاً للجميع في الكنيسة. ويمارس أيضا “مد اليد للجميع”، مُشدداً على أن مُهمة الكنيسة في العالم تفرض عليها الاصغاء لكل معاناة. يدعو الكنيسة لمُخاطبة الجميع، النخبة والأشخاص العاديين، الأغنياء والفقراء، الأصحاء والمُعذبين، المؤمنين وغير المؤمنين،من دون إدانة، باحترام ومحبة، على مثال يسوع. وصفته مجلة “التايمس” الشهيرة بـ “بابا الشعب و بابا الفقراء”، لجهة بساطته الإنجيلية واهتمامه النوعي بالكبار والصغار، مُسقطاً العوائق البروتوكولية، وهو الذي يدعو إلى إسقاط حواجز التباعد و الفتور بين رئتي الكنيسة، الإكليريكي والعلماني. قوته أنه يبدو غير مُقيَّد إلا بمقتضيات الشهادة ليسوع المسيح في عالم اليوم. ما يحدث اليوم في الفاتيكان يتخطى إرادة شخص، فهو قراءة نقدية شاملة، لا بل ثورة إنجيلية دفها إعادة تمركز للكنيسة الكاثوليكية في عالم اليوم. فهل ينجح البابا؟ و هل تلاقيه الكنائس الأرثوذكسية من صميم معاناتها لكي تعكس الكنيسة الجامعة ببهاء وذكاء صورة المسيح ومجده في عالم اليوم؟