حين قتل قايين (قابيل في التراث الإسلامي) أخاه هابيل، قال له الله: “صوتُ دم أخيك يصرخ إليّ من الأرض. والآن ملعون أنت من الأرض التي فتحت فمها لتقبل دم أخيك من يدك… طريداً شريداً تكون في الأرض” (سِفر التكوين 4، 10-12). اللافت هنا أنّ الله لم يقل: “صوت أخيك يصرخ إليّ…”، بل قال: “صوت دم أخيك…”، وفي ذلك إشارة إلى الجريمة التي ارتكبها قايين، وإلى العقاب الذي سيناله نتيجة دم أخيه المسفوك.
أما السبب الذي دفع قايين ليقتل أخاه هابيل فهو أنهما قدّما تقدمة للرب، “فنظر الرب برضى إلى هابيل وقربانه، ولكن إلى قايين وقربانه لم ينظر برضى (…) فاغتاظ قايين جداً وعبس وجهه”، فقام وقتل أخاه هابيل (تكوين 4، 1-15). لقد تقبّل الله تقدمة هابيل لأنه كان أحسن عملاً وأكثر تقوى من أخيه قايين، فالله قال لقايين: “لماذا اغتظتَ ولماذا عبس وجهك؟ إذا أحسنتَ عملاً رفعتُ شأنك. وإذا لم تحسن عملاً، فالخطيئة رابضة عند الباب، وإليك تتلهّف، وعليك أن تسود عليها” (تكوين 4، 6-7).
تتفق الرواية القرآنية عن قتل قايين لأخيه مع رواية كتاب التكوين. فهما قدّما قرباناً لله “فتُقبّل من أحدهما ولم يُتقبّل من الآخر”. فيقول قابيل لهابيل: “لأقتلنّك”، فيجيبه هابيل: “إنّما يتقبّل الله من المتّقين” (سورة المائدة، 27). الله، إذاً، لم يتقبّل تقدمة قابيل بسبب عدم تقواه.
وحين همّ قابيل بقتل أخيه، لم يقابله هابيل بما يخالف مبادئه وتقواه، فقال له: “لئن بسطت إليّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك، إنّي أخاف الله رب العالمين” (المائدة، 28). لم يقابل هابيل الشرّ بالشرّ. وترك هابيل الحكم والقضاء والجزاء لله، إذ قال لقابيل: “إنّي أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين” (المائدة، 29). فضّل هابيل أن يكون مقتولاً على أن يكون قاتلاً لأخيه.
يقول القديس أمبروسيوس أسقف ميلانو (+397): “الخاطئ عبد للخوف، وعبد للجشع، وعبد للغضب. وعلى الرغم من أن إنساناً في وضع قايين يظنّ نفسه حراً، إلاّ أنه كان أكثر عبودية مما لو كان تحت أقدام الطغاة”. وأمبروسيوس نفسه يلاحظ أن “قايين كان خائفاً من أن يُقتل، وكان لا يعرف إلى أين يهرب. فالشرّ يتعاظم ويتكاثر كلّما مورس، إذ لا حدود له أو اعتدال”. من تلك العصور السحيقة، منذ بدء التاريخ، إلى يومنا هذا، ما زال الإنسان يقتل أخاه الإنسان، وما زال الإنسان يفضّل العبودية للخطيئة، وما زال الشرّ يستدعي الشرّ…
يرى أوريجنّس العلامة (+235) في دم هابيل رمزاً لدم الشهداء كافة، فيقول: “إن ما قيل عن هابيل، الذي أزاله من الوجود قايين الجائر قاتل البشر، يطبّق على الذين سُفكت دماؤهم ظلماً. إنّ قوله: “صوت دم أخيك يصرخ إليّ من الأرض” ينطبق أيضاً على كل الشهداء”.
في سوريا، اليوم، ما زال قايين السوري يستبيح دم أخيه هابيل الصارخ إلى الله. غير أننا لن نفقد الرجاء بأنّ دم هابيل المسفوك، وهو في التراث المسيحي يرمز إلى دم السيّد المسيح، سوف ينتصر على السيف، وقد انتصر.