محبّة الحياة ومحبّة الموت!

mjoa Monday October 28, 2013 131

البشر، في التّوجّه، مجموعتان: واحدة تحبّ الحياة وواحدة تحبّ الموت، واحدة تحبّ الحقّ وواحدة تحبّ الباطل. أمّا مَن يحبّون الموت، فلا يمكنهم إلاّ أن يحبّوه لغيرهم؛ وأمّا مَن يحبّون الحياة، فلا يمكنهم إلاّ أن يحبّوها لكلّ النّاس! فإذا ما أحبّ القوم الحياة لأنفسهم، في لامبالاة تجاه الآخرين، أو على حسابهم، فلا يكونون محبّين للحياة الحقّ، بل لأنفسهم! هؤلاء صفة واحدة تسري عليهم: أنّهم أنانيّون، عبّاد لأنفسهم! همّهم في ذواتهم؛ والآخر، لو مات، فإنّهم، في قرارة نفوسهم، لا يَسألون ولا يبالون!

يريدون كلّ النّجاح لذواتهم، ويعثرون بالخير، إذا ما أصابه سواهم! أكثر من ذلك، أنّه ينتابهم شعور بالضّيق والحسد منهم! فورًا، يقولون، في سرِّهم، وأحيانًا لا يتورّعون عن المجاهرة بأنّ الآخرين غير مستقيمين، أو أنّ المحسوبيّات تقدِّمهم، لا كفاءاتهم، أو أنّ الظّروف تعينهم، أو أنّ الحظّ يؤاتيهم! يتكلّمون على من يحسدونهم بالسّوء! يشعرون بالغبطة المريضة إذا ما أصابهم أذًى! يحسبون أنفسهم مزكَّين في مواقفهم منهم! يتمنّون لهم، في قرارة نفوسهم، المضرّة، وحتّى الموت، بحجّة أنّهم مستأهلون له! ولا مانع لديهم أن ينسبوا نواياهم الشّرّيرة إلى الله! لا يتوانون عن التّجريح بـ”خصومهم” المزعومين، متى سنحت لهم الفرصة، أو سألهم بعض النّاس في شأنهم! قد يفعلون ذلك بأسلوب فجّ وقح، وقد يفعلونه بهدوء متكلّف وموضوعيّة مصطنعة ومسكنة خبيثة! لا ما يردعهم عن اللّعن باسم الله! يعادون الآخرين لِلا سبب، كأنّ الآخرين يأخذون من قدّامهم ما يحسبونه لهم، ومن حقّهم دون سواهم، أو، بالأحرى، كأنّهم يختلسون منهم ما يعتبرون أنّهم أكثر أهليّةً له! حتّى مجرّد وجود الآخرين يزعجهم! عاتبون على الله لأنّه خلق غيرهم! يعتبرونه تهديدًا لهم! اليهود مثال صارخ لذلك! أبغضوا الرّبَّ يسوع، كلَّ الحقّ، بلا سبب! هكذا هم! يُعادون سواهم مهما سعى سواهم في خدمتهم! إذا ما خاطبهم غيرهم بالحسنى، قالوا إنّهم يمثِّلون، ولهم نوايا مبيَّتة! وإذا ما تكلّم غيرهم بالحقّ، قالوا إنّهم يدّعون وهم غير متواضعين! يشكّكون في كلامهم، ويفسّرونه على غير مرماه! مهما أتى غيرهم من صالحات، فإنّهم يقلِّلون من أهمّيّتها، أو لا يبالون بها، كأنّهم غير معنيّين بما يخصّ غيرهم؛

أمّا إذا زلّ سواهم في شيء، مهما كان طفيفًا، فإنّهم لا يسترونه، بل ينبرون يطبِّلون ويزمِّرون، تشهيرًا، غيرةً على الحقّ، يزعمون: انظروا ما فعل فلان! اسمعوا ما قال! هذا إذا لم يخترعوا الأكاذيب فيهم! إذا ما سمعوا خبرًا حسنًا في “مناصبيهم”، قالوا: “كَذِبٌ في كَذِبٍ”! أمّا إذا بَلَغتهم إشاعةٌ تنال منهم، صدّقوها للحال، وأشاعوها! في قرارةِ نفسِ مَن يحبّ الموت طاقةُ حقدٍ دفين على كلّ من يخالفه الرّأي أو يقف في طريقه! مستحيل على من يحبّ الموت أن يؤمن بالرّبّ يسوع! مهما فعل في كنيسة المسيح، ممّا يبدو حسنات، فإنّه يفعله لمجد نفسه لا لمجد الله، أو لمجد نفسه بنسبته إلى مجد الله، وكأنّ ما له هو لمجد ربّه! من هنا حماسته، ومن ذا غيرته! لا أطيب على قلبه من أن يصنع أمرًا باسم الله، متى حقّق له هذا الأمر مصلحة شخصيّة! ومتى تيقّن من أنّه لا منفعة ذاتيّة له من إتمام أمرٍ ما ظاهرُه لمجد الله، فترت همّته، وانسحب منه متعلِّلاً بعلل الخطايا! في وجدانه دودة شيطانيّة تنخره، وفي قلبه نار جحيميّة تحرقه!

     أمّا مَن يحبّون الحياة، فوجدانهم آخر. يعون أنّ في قلوبهم نزعةً إلى حبّ الذّات، كأنّها عفويّة، ناجمة من السّقوط، لكنّهم لا يستسلمون لها! أوّل محبّة الحياة غَصْبُ النّفس على خدمة الآخرين، ووسطُها شَغَفُ القلب بالمساهمة في نقل الفرح إلى النّاس، وكمالُها انغمار قلب محبّ الحياة بفرح العطاء!

     من يحبّ الحياة يتعهّدها حيثما حلّ. يتعلّم أن يطلبها لذاتها، لا لذاته. يبذل ممّا لديه. يضحّي، حتّى بذاته! نملةً، عصفورًا، طفلاً جائعًا، شيخًا مُعوَّقًا… كلّ حيّ مؤتَمَن على كلّ حيّ! الحياة هبة الله. فمَن تعهّدها أحبّ مَن حباها! ليست الحياة برسم الاستهلاك. الحياة لتمدّك بالحياة! الاستهلاك، أصلاً، معناه أن يُبيد المستهلِكُ المستهلَكَ، كسلعة، ليغتذي بها! ما يُفترَض بالحياة هو أن تبثّ الحياة، وتبثّها بوفرة! على مثال الحيّ الّذي هو الحياة! يُحيي ولا يَنقص في شيء! لا حياة تأتي من موت، ولا تُتعاطى بموت! ما تقتله لا يحييك! يقتلك! ما تقتله يستحيل جثّةً! تعيش، إذ ذاك، على الجيف! الوصيّة كانت: لا تقتل! فيورباخ، الفيلسوف، قال: الإنسان ما يأكل! هذا صحيح! فإن عشت على الجيف، واغتذيت بالجيف، صرتَ، أنتَ نفسك، جيفة! ثمّ يودعونك القبر، ولو بعد حين! لأنّك تعيش على ما هو مائت تموت! ثمّة فرق شاسع بين أن تعيش وأن تحيا! العيش معطًى آليّ، ميكانيكيّ؛ فيما الحياة روح! لكي تعيش، أنت بحاجة إلى وقود كالسّيّارة، إلى أن تتعطّل السّيّارة! الوقود ميت! فمتى نفد الوقود لديك، أو متى كفّ إمكان استيعابك له، مُتَّ! أمّا الحياة، فبحاجة إلى الحبّ! لا حياة حيث لا محبّة! الحياة، بطبيعتها، تعطي الحياة من دون أن تموت! لا حاجة إلى أن تنطفئ الشّمعة لتضيء شمعةً أخرى! لتحيا تحتاج إلى روح! الرّوح هو الّذي يحيي. فيما لتعيش تحتاج إلى مختبر عضويّ ووقود! تستحيل، إذ ذاك، في السّلوك، مادّة صمّاء، ولو توفّرتْ لديك، في المبدأ، كلّ مقوِّمات الحياة! ما أنت مُعطاه يُحيا بالحبّ، فإن لم تحبّ لتحيا أحلتَ نفسك آلة موت لا تلبث أن تتفكّك وتنحلّ!

     من مفارقات الحياة أنّك لتأخذ عليك أن تعطي. بالأحرى، تأخذ ما تعطيه. هي طبيعة الحياة تفرض سنّة الحياة. لذا قيل: من وجد نفسه أضاعها، ومن أضاع نفسه وجدها! بالبذل والتّضحية تحيا. وحيث لا بذل ولا تضحية يتشيّأ الإنسان، ومن ثمّ الإله، في عين الإنسان، ويصير صليب الرّبّ يسوع المسيح رمز الإخفاق الأكبر! البشريّة، في تكوينها ومرتجاها، روح وعقل ومادّة. فإن تشيّأ الإنسان، انتفى عن أن يسلك كروح، واقتصر، وجوديًّا، على العقل والمادّة. فأمّا العقل والمادّة، بلا روح، فآلة تترواح بين البدائيّة الوحشيّة والتّكنولوجيا العضويّة المتقنة! كلاهما ثقافة… أو انعدام ثقافة! الإنسان البدائيّ كان يأكل لحوم البشر، على نحو همجيّ، قيل! ولكنْ، ما الّذي يفعله الإنسان العصريّ؟ يأكل لحوم البشر، على نحو حضاريّ! ما الفرق بين الطّريقتين؟ الفرق في الأسلوب، لا في المضمون! المضمون واحد، وموقف القلب واحد! فحيث لا محبّة، يكون الإنسان ذبيحَ خطيئة الإنسان، لا فرق كيف يذبحه! الآلة تختلف والفعل واحد! فحيث لا محبّة، لا يمكن الإنسان إلاّ أن يتعاطى القتل، واعيًا أو غير واعٍ! أيّ فرق، اليوم، بين من يذبحون بالسّكّين وينحرون بالسّيف، باسم الله، ومن يذبحون بالاستعمار الفكريّ والسّياسيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ، وينحرون بالإعلام المرئيّ والمسموع، باسم الحرّيّات المدنيّة؟! كلاهما بلا قلب! كلاهما همجيّة روحيّة! كلاهما نفسانيّ شيطانيّ! واحد يأكل لحم أخيه بيديه بهياج ووحشيّة، والآخر بالشّوكة والسّكّين، بتهذيب وبرودة أعصاب! بالعكس، الطّريقة الأخيرة أفظع، بما لا يُقاس، لأنّها تعقلن اللاّإحساس وتُمأسسه! الإنسان، إمّا يتروحن عقله ومادّة جسده فيحيا ليضيء ويستضيء، وإمّا يتنفسن ليعيش منعدِم الوجود الحيّ، قابعًا في غياهب ظلمات نفسه!

     ما هو الجحيم؟ هو ألاّ تحبّ إلاّ نفسك! قِوامك، إذ ذاك، نفسٌ مفرغَةٌ من كلّ حنان إلهيّ، ومن كلّ حسّ بشريّ، وعتمةٌ سُبي الضّوء منها فأضحت عدميّة! لا فقط الآخر جحيمي، كما قال سارتر، بل، بالأحرى، فراغي جحيمي! ليس الجحيم من صنع الله، بل من صنع خلائقه، إن استغربوا عنه وأقصوه من أفقهم! بكلام آخر، ما جعله الله للحياة والفرح يصير للموت والأسى! هناك يكون البكاء وصريف الأسنان! لا بكاء التّوبة، بل البكاء المتأتّي من غيظ الخطيئة، ومن التّوق الأحشائيّ إلى عمق الموت المشوق إليه! يطلبون الموت ولا يُعطى لهم! شوقهم إلى العدم، أبدًا! إنّها الحياة المحالة لعنةً! ليتنا لم نوجَد، قالوا! وجودهم صيّروه عذابًا وهلاكًا أبديًّا لهم!

     أمّا بعد، فثمّة من يسمع، هؤلاء يحيون؛ وثمّة من لا يشاء أن يسمع، بحال، هؤلاء يجعلون ذواتهم، من حيث لا يعون، هباء تذرّيه الرّيح عن وجه الأرض!…

 

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share