الغنيّ الجاهل للقديس باسيليوس الكبير

mjoa Monday November 11, 2013 281

“وكلّمهم بمثل قائلا: رجل غنيّ أخصبت أرضه كثيرا” (لوقا ١٢: ١٦). لقد غلّت الأرض كثيرًا لرجل لم يشأ ان يعمل شيئا صالحا من غلّته ليظهر لنا طول أناة الرب غير المحدودة. الرب أرسل المطر الى الأرض، والرب أرسل حرارة الشمس للبذور. ان الأهراء ضاقت من وفرة الغلة لكنها لم تملأ قلب البخيل الذي كان يكدّس الجديد مع القديم، واذ لم يبقَ عنده محل للغلة قال: ماذا أصنع؟

من لا يشفق على انسان موجود في حالة ضيق كهذه؟ لقد جعلته الغلّة في حالة يُرثى لها فأمسى مستحقّا الشفقة. لقد أنبتت له الارض التنهدات والأحزان، وقدمت له الاهتمامات والصعوبات المخيفة. إن الطماع ينقبض حينما يخطر في باله انه يسبب سرورا للآخرين. الخيرات تتدفق من المخازن ونفسه ترتعد خشية أن يسقط شيء من الحبوب خارجا فيستفيد منها الآخرون. ان مرض الغني الطماع كمرض الشره الذي يؤثر ان يتمزق من النهم والشراهة على أن يشاطره المحتاجون فضلات الطعام.

اما انت فتشبّه بالأرض وأَعط ثمرا مثلها حتى لا تكون أسوأ من المخلوقات الجامدة. لقد أنبتت الأرض البذور لا لأجل منفعتها بل لتغذيك بثمارها، فأثمر انت بالإحسان ليعود عليك بالنفع لأن الشكر عن عمل الخير يعود للمعطي. إن ما تعطيه للمحتاج يكون خاصتك ويردّ اليك أضعاف أضعافه للمعطين. فليكن قصدك في الابتداء الزرع السماوي حسب كلمة الله: “ازرعوا لكم بالعدل” (هوشع ١: ١٢)؟؟. “الصيت أفضل من الغنى الكثير” (أمثال ٢٢: ١). ان كنت تحب المال وتحسب وجوده عندك شرفا لك، فاعلم أن الأفضل أن تكون أبًا للألوف من أن تكون ألوف الدنانير في صندوقك. المال يبقى على الأرض هنا، أما مجد الأعمال الصالحة فيبقى لك حينما تقدم هذه الأعمال للسيد ويحيط بك الكثيرون يوم الدينونة داعين إياك مُحسنًا ومُنعمًا ومُحبًا للبشر، ويقبلك السيد ويثني عليك الملائكة ويغبطك البشر مهما كثروا. اجعل ثروتك لقضاء حاجات كثيرة مبيّنا الأفضل منهـا للإنـفـاق على المحتـاجيـن فيقـال عنـك: “بـدّدَ أَعطـى المساكين فبرّهُ يدوم الى الأبد” (مزمور ١١١: ٩ و٢كورنثوس ٩: ٩). لا ترفع الأسعار منتظرا الغلاء، بل في أيام الضيق افتح أبواب أهرائك لأن “الذي يحتكر الحنطة يلعنه الشعب” (أمثال ١١: ٢٦). لا تنتظر الجوع لأجل الذهب ولا الغنى لأجل الكسب. لا تجمع المال من ويلات الشعب، ولا تجلب غضب الرب عليك لأجل أطماعك. وزّع على المحتاجين اليوم ما قد يفسُد غدا. ضع نُصب عينيك الغنيّ المدان الذي خزن الحاضر واضطرب لأجل المنتظر وهو لا يعلم أيعيش الى الغد أَم لا. قد أخطأ اليوم وفي الغد ظهرت قساوته قبل أن يتقدم منه اي سائل، وهكذا استحقّ الدينونة لطمعه قبل أن يجمع الثمر.

أَهدم أهرائي وأَبني أكبر منها. حسنا تفعل لأن أهراء الباطل قائمة لكي تُهدم لأنك تهدم بيديك ما بنيته رديئا. اكسر عنابر القمح التي لم ينصرف احد عنها مسرورا. اهدم البناء المحفوظ بالطمع. افتح للشمس الحنطة المكسوة بالعفن. أَفسح مجالا للثروة المفيدة: افتح للجميع بيتًا مظلما كنتَ قد خصصته لإله المال فيستنير بفرحهم.

أَهدم أهرائي وأَبني اكبر منها. واذا ملأتَ الأكبر فما الذي تعمله بعد؟ هل تهدمها مرة ثانية لتبني اكبر منها ايضا؟ إن شئت أن يكون لك أهراء كثيرة -وهي بيوت الفقراء- “فاكنز لك كنوزًا في السماء حيث لا يفسد سوسٌ ولا آكلةٌ ولا ينقب سارقون ويسرقون” (متى ٦: ٢٠). ربما اعترضت قائلا: إنني سأُعطي الفقراء بعد أن أَملأ الأهراء الثانية. انك أَعددت لنفسك سنوات كثيرة، وبوعدك هذا تظهر الخداع لا الصلاح. تعد بما لا تنوي وفاءه. فما الذي يمنعك عن العطاء الآن؟ إن الجائع هزيل والعريان يرتجف والمدين سجين وانت تؤجل عمل الرحمة الى الغد ناسيا كلام الحكيم المملوء من روح الله: “لا تقُل لصاحبك اذهب وعد فأُعطيك في الغد اذا كان الشيء عندك” (أمثال ٣: ٢٨). كم من الشكر يجب ان تقدّم للمنعم العظيم الذي لم يحوجك لكي تقف عند أبواب غيرك بل الآخرون يأتون اليك. ولكنك انت تحاول ألا ترى المحتاجين حتى يفلت الاحسان من يدك. فأنت فقير في الحقيقة بمحبة البشر، بالإيمان بالله، بالرجاء الأبدي. وما دمت تجهل الخيرات الروحية، فما الذي تقدّمه لنفسك من الغذاء الجسدي؟

يا نفسي، إن لك خيرات كثيرة، كلي واشربي وتنعّمي يوميا. لو كانت نفسك ملأى بالأعمال الصالحة، لكانت لك الخيرات الكثيرة. لكن إن جعلت بطنك ربًا لك، فاسمع ما يدعوك به السيد: يا جاهل، هذه الليلة تُطلب نفسك منك، فهذا الذي أَعددتَهُ لمن يكون؟ إن الخسارة بسبب هذا الجهل أشد وطأة من العذاب الأبدي. قد تعترض وتقول: لمن أُسيءُ اذا تصرّفتُ كما أريد بما يخصني؟ ما الذي يخصك؟ ألم تخرُج عريانا من جوف أُمك؟ ألم تعد الى الأرض عريانا؟ فأنّى لك ما لديك؟ فإن قلتَ انه جاءك بطريق الصدفة، فأنك تُنكر جميل الوهّاب. وان اعترفت بأنه من الله، فأرنا الأسباب التي بها حصلت عليه. ترى هل الله غير عادل بتوزيعه علينا لوازم المعيشة؟

لماذا انت غنيّ والآخر فقير؟ أليس لتحصل على الجائزة من أجل حُسن تدبيرك، وليحصل هو كذلك عليها لحُسن اصطباره؟ أَم انت احتكرت كل شيء لتُشبع طمعك وانت تظن انك لم تُهن الآخرين ولم تغتصب حقوق الكثيرين؟ ان الخبز الذي تحتكره هو للجائع، والثياب المحفوظة في خزانتك هي للعريان، والأحذية العتيقة التي عندك هي للحافي، والفضة المخزونة عندك هي للمحتاجين. فاهتمّ ليكون ما يُخلّصك فداء عنك بنعمة من يدعوك الى ملكوته السماوي الذي له المجد والملك الى دهر الداهرين.

 

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share