ثمّة ظاهرة جديدة تستدعي إمعان النّظر، بين الرّوم الأرثوذكس، في لبنان: نشوء هيئات مدنيّة، على سجيّتها، ذات طابع طائفيّ أرثوذكسيّ، وتوجُّه شبه ثقافيّ اجتماعيّ سياسيّ، على نحو متزايد. هذه تَطْلُع خارج السّياق الكنسيّ، كما لتملأ فراغًا يعانيه بعض العامّة من جهة شعورهم بأنّهم مهمَّشون، سواءٌ في الوطن أم في الكنيسة، الطّاغي عليها، في وجدانهم، طابعُ الطّائفة، والمُظَنّ أنّ الهيمنة الإكليريكيّة فيها لا تترك مجالاً لدور تساهم فيه العامّة في إنماء الكنيسة/الطّائفة، ما يؤدّي إلى شعور لديهم بالغربة والإلغاء! طبعًا، يجري ذلك في مناخ من حبّ الظّهور والسّلطة وتعظّم المعيشة نحو تحقيق مكاسب شخصيّة، في إطار الطّائفة، أو باسمها، أو على حسابها، ما دام هذا هو إنسان هذا الدّهر!
أن تنشأ هيئات طائفيّة أو مدنيّة يشترك فيها الأرثوذكس أمر طبيعيّ، طالما الطّابع الطّائفيّ للبلد يستدعي ذلك، وكذا المواطنةُ الشّراكةَ في بناء الوطن! لكنّ السّؤال ينطرح: ماذا وراء هذه الطّفرة، لنشوء تلك الهيئات، في هذه الآونة بالذّات، إذا ما كانت ثمّة نوازع فعليّة مستجدّة لها؟
التّململ موجود، من سنين، أنّه لا إزائيّة فعليّة ولا شورى حقيقيّة موفورَين، بين أبناء الإيمان، على نحو صحّيّ سليم، أساقفةً وكهنةً ورهبانًا وعامّةً. حتّى إقرارِ قانون 1973، المعدّل سنة 1993، في شأن المجالس الرّعائيّة، لَعِبَ “الذّوات”، لا سيّما السّياسيّون، من أبناء “الطّائفة الأرثوذكسيّة”، دورًا مؤثِّرًا في شؤون الكنيسة، استنادًا إلى قانون 1953. يومذاك، منذ العام 1973، سكب آباء المجمع المقدّس اللاّهوت الكنائسانيّ، ورؤيةَ الشّورى والتّعاطي الإزائيّ بين الإكليروس وعامّة المؤمنين، مواد قانونيّة توسّمت المرتجى، أسقفًا من عمق التّراث، وكاهنًا على مثاله، بإزاء مؤمن من العامّة يحاكي سيل السّابقين المتّقين، في عراقة التّائقين إلى القداسة والملكوت! بكلام آخر، التّشوّف كان إلى أسقف وكاهن تراثيَّين، على حداثة، كما إلى مؤمن يستعيد الموقع العامّي الكنسيّ، الّذي يجمع، إلى المعرفة اللاّهوتيّة، سيرةً روحيّة أرثوذكسيّةً أصيلةً تستردّه من انتماء طائفيّ قَبَليّ إلى انتماءٍ حقيقيّ إلى جسد المسيح! هذا كان، ليتحقّق، بحاجة إلى عمل جبّار، وإلى آلية تنفيذ جدّيّة، وإلى جهد تعليميّ رعائيّ تنشئويّ حثيث، لئلاّ تحلِّق الرّؤية في مراقيها العليا وتبقى الممارسات رابضة في مراقيها الدّنيا! للكنيسة الأنطاكيّة، أقلّه في المائة السّنة الأخيرة، تاريخ من التّغاضي، إن لم نقل الاستهانة، بتنفيذ القوانين المُسَنَّة وحمل الشّرع الكنسيّ على محمل الجدّ!
أربعون سنة مرّت على إقرار قانون المجالس الرّعائيّة، ولمّا يُوضَع موضع التّنفيذ إلا لِمامًا وشكلاً. المردود، كنسيًّا، كان ضئيلاً كأنّه لم يكن. صحيح أنّ ظروف الحرب المحلّيّة أثّرت، لكن الحقيقة هي أنّ النّيّة الجدّيّة لم تبدُ موفورة نحو تجسيد روح القانون ذاك، ما يعني فشلاً في إخراج المؤمنين إلى مناخ كنسيّ تراثيّ رعائيّ حقّانيّ. تداعيات التّغاضي عن تنفيذ القانون، روحًا ونصًّا، كانت موجعة:
1 – الاكتفاء بتسيير الأساقفة، رسميًّا، شؤون الإدارة الكنسيّة مستعينين بمَن يَرونهم مناسبين لمعاونتهم.
2 – ترك المؤسّسات الكنسيّة للأساقفة أو تحكّم المتنفّذين، واقعًا، ببعضها، بمعزل عن الرّعاة ورغمًا منهم.
3 – شيوع موقف اللاّمبالاة، في الشّأن الكنسيّ، بين العامّة، واعتبارهم لذواتهم غير معنيِّين به. الأمر في يد الأساقفة والعامّة لا دور لهم، يَحسبون. هذا في الوجدان العامّ.
4 – الإفضاء إلى اعتبار الرّعاة مسؤولين، (de facto)، عن الشّؤون السّياسيّة والاجتماعيّة والصّحّيّة والتّربويّة والاقتصاديّة وسواها للطّائفة، ما رتّب، في الواقع العملانيّ، على الأساقفة، أعباء ومسؤوليّات يستحيل عليهم تحمّلها، وما جعل مواقف الرّعاة تتراوح، فعليًّا، بين اللاّمبالاة بشؤون الطّائفة، والاهتمام الانتقائي ببعضها، وتسييب أكثرها، إمّا بحجّة أنّ الاهتمام المدنيّ بأحوال الطّائفة لا يليق بالموقع الكنسيّ للرّعاة، وإمّا لأنّ طاقات الكنيسة بين أيدي الأساقفة، محدودة، وإمّا لأنّه لا نفوذ لهم يستغلّونه لصالح “أبنائهم”!
5 – كلّ هذا أدّى إلى تغريب العامّة عن حمل المسؤوليّة التّعاونيّة والشّورانيّة والرّعاة، في الطّائفة، وكذا إشاعة الشّعور بالضّياع بإزاء المجتمع المدنيّ الأكبر، إضافة إلى الشّعور بالإحباط والتّسييب!
ثمّة مَن يقول إنّ قانون 1973/1993 وُضع لكي لا يُطبَّق! وثمّة مَن يَحْسَب أنّ العطالة (Inertia) التّقليديّة الّتي تغلِّب هيمنة الشّخص، في موقع المسؤوليّة، على التّنظيم الإداريّ وسيادة الأعراف والشّرع الكنسيّ، إلى حدّ الاستغناء عن الإدارة الجدّيّة وتعطيل القوانين، أقول هذه العطالة التّقليديّة، مبرَّرةً بالظّروف الّتي عَبَر بها البلد، أقلّه منذ العام 1975 وحتّى العام 1990، هي الّتي حالت، إلى الآن، دون التّعاطي الرّصين والمسؤول مع قضايا الشّرع الكنسيّ والقرارات المجمعيّة! أنّى يكن الأمر، فإنّنا كنّا، ويبدو أنّنا لا زلنا، بإزاء أزمةِ ذهنيّةٍ محلّيّة، تكرِّس سلطة الفرد الواحد، في المكان الّذي هو فيه، ولا تُفسِح، كثيرًا، في المجال، لا للتّعاطي الشّورانيّ ولا للتّعاطي المؤسّساتيّ الإداريّ! عمليًّا، لا نبدو، في المنظور العامّ، لا كنيسةً، بمعنى جسد المسيح، ولا طائفةً، بمعنى القبيلة. لماذا؟ لأنّ للكنيسة منطقًا عملانيًّا خاصًّا بها، وكذلك القبيلة؛ وأمّا نحن فلا يحكم سلوكَنا لا هذا المنطق ولا ذاك! صحيح أنّنا كنيسة، في المبدأ، في نظرتنا الذّاتيّة إلى أنفسنا، لكنّنا، في الواقع، قبيلة/طائفة، لا في نظرتنا العميقة إلى ذواتنا، بل في نظرتنا الظواهريّة المستمددة من تصنيف الآخرين لنا! هذا يجعلنا في شيء أو في الكثير من الضّياع! فإلى أين المسير والحال هذه؟!
لقد ظلّت العامّة، طويلاً، ساهية عن غيابها، واستغيابها عن الشّأن الكنسيّ الطّائفيّ. وقد نشأ، منذ بعض الوقت – ولهذا مغزاه! – ما يُعرَف بـ”اللّقاء الأرثوذكسيّ” تحت شعار المطالبة بحقوق الطّائفة الأرثوذكسيّة المهدورة في الوطن، وإحياء دورها، بإزاء الإكليروس، في الكنيسة. في مرحلة النّشأة، بدت العلاقة بالرّعاة سلاميّة، وحتّى ودّيّة. ثمّ، شيئًا فشيئًا، بدا كأنّ هناك أزمة علاقةٍ واختلافًا في الموقف بين “اللّقاء” وبعض الرّعاة، والرّعاة فيما بينهم، في الشّأن المطروح. واقع الحال أنّ عصبة العامّة، هذه الّتي تكوّنت، كانت بحاجة إلى تغطية أسقفيّة وكهنوتيّة، وهذا، في المناخ السّائد، كان ميسورًا! مذ ذاك بدا كأنّ ثمّة بلبالاً على الأرض!
من جهة أخرى، نشأت هيئة تسمَّت بـ”اللّقاء الرّعائيّ الأرثوذكسيّ” أكّدت ضرورة تطبيق قانون المجالس الرّعائيّة 1973/1993 نحو استرداد دور العامّة في إدارة الشّؤون الكنسيّة. هذه الأخيرة سعت، عبر اتّصالاتها بالأساقفة، إلى الدّفع باتّجاه تحقيق مطلبٍ بدا، قانونيًّا ورعائيًّا، لا غبار عليه. فيما سعى الدّافعون إلى المطالبة بحقوق الطّائفة الأرثوذكسيّة إلى العمل على استصدار قرار مجمعيّ بإنشاء ما عُرف بـ”الهيئة المدنيّة للرّوم الأرثوذكس”. ولكنْ لا “اللّقاء الرّعائيّ الأرثوذكسيّ” تمكّن من إقناع أعضاء المجمع المقدّس بعملانيّة مطالبه، ولا “اللّقاء الأرثوذكسيّ”، وسواه من الجماعات ذات التّوجّه الطّائفيّ، تمكّنوا من تمرير مشروع الهيئة المدنيّة للرّوم الأرثوذكس.
الهيئتان معًا واجهتا، كلّ واحدة، من ناحيتها، مشكلة. مشكلة الفئة المطالبة بحقوق الطّائفة أنّها، بحجّة تفعيل الدّور الطّائفيّ لعامّة الرّوم الأرثوذكس عملت، من حيث تدري ولا تدري، على الحصول على قرار مجمعيّ كنسيّ يكرِّس قانونيّة هيئة طائفيّة مدنيّة لا طبيعة كنسيّة لها! ثمّ ميزة هذه الهيئة، لو أُقرّت، أنّها كانت ستعمل باسم الكنيسة الأرثوذكسيّة وتتولّى إدارة المؤسّسات ذات الطّابع الاجتماعيّ الخدماتيّ فيها، كما كانت ستعمل، في المجال المدنيّ الأعمّ، على متابعة شؤون أبناء الطّائفة، على امتداد الوطن والمهجر، ولكنْ بالاستقلال الفعليّ عن الكنيسة والإشراف الكنسيّ عليها!
مشروع الهيئة المدنيّة، لو أُقرّ، كانت لتكون له عواقب مأسويّة على الكنيسة، من جهة لاهوتها الكنائسانيّ: العاقبة الأمرّ أنّه كان سيكرِّس، بقانون، هيمنة الزّعماء والسّياسيّين والموظّفين والأغنياء على مقدّرات الكنيسة/ الطّائفة الأرثوذكسيّة، وحتّى على الأساقفة والكهنة أنفسهم! والعاقبة الأشرّ أنّه كان سيكرِّس الاستغناء عن الكنيسة ككنيسة، إلاّ طقوسًا، وتاليًا الفرقة بين الإكليروس والعامّة كمؤمنين، مطيحًا ضرورة وإمكان ترميم العلاقة القويمة بين هؤلاء وأولئك، نحو استعادة المناخ الكنسيّ الأصيل، إلى الأرثوذكسيّة الأنطاكيّة!
أمّا “اللّقاء الرّعائيّ الأرثوذكسيّ”، فرغم سلامة طرحه، كنسيًّا، فإنّه لا يبدو، لا في المناخ الوجدانيّ الشّائع بين الأرثوذكس، اليوم، لجهة الاسترخاء المزاجي في تعاطي الشّرع الكنسيّ، ولا في إطار الاعتياد على التّعاطي الأحدي لشؤون الكنيسة، ولا في إطار التبلّد والخيبة المتفشِّيَين في صفوف العامّة، ولا بَعد تغاضٍ دام أربعين سنة عن التّطبيق الجدّيّ، بكلّ أبعاده، لقانون 1973، أقول رغم سلامة طرح “اللّقاء الرّعائيّ”، في المبدأ، فإنّ إمكان نجاحه في مسعاه، فعليًّا، يبدو شبه مستحيل! الفرصة الّتي كانت متاحة، منذ أربعة عقود، لم تعد متاحة اليوم!
عندك، اليوم، إذًا، واقع جديد صعبٌ وخطر! بعض المطالبين بحقوق الطائفة شرعوا ينهجون خطًّا مستقلاًّ عن خطّ الإكليروس الأرثوذكسيّ الأنطاكيّ تحت شعار: “المجتمع المدنيّ الأرثوذكسيّ”. هذا النّهج، فيما يبدو، آخذ في الرّواج! بعض الرّعاة منزعج، وبعضهم لا يبالي، وبعضهم لا يمانع في أن يكون له لسان حال وأصحاب النّهج المستجدّ! الرّوس عبر “الجمعيّة الرّوسيّة الفلسطينيّة” المحياة، مُجدّون في توطيد العلاقة بالتّيّار الطّائفيّ المدنيّ الأرثوذكسيّ الحالي دون حاجة إلى مبارَكة الإكليروس، ولو اهتمّوا بأن تكون لهم مودّات، قدر الطّاقة، والأساقفة! هذا يشجّع المطالبين بحقوق الطّائفة على المضيّ في مساعيهم لإثبات وجودهم واستقطاب مَن أمكن ممّن يمكن أن يُعتبر “الرّأي العامّ الأرثوذكسيّ”، عندنا! احتجّ بعضُ الأساقفة على ما يجري أو لم يحتجّ، القطارُ ماضٍ في مسيره! بالعكس، واقع الحال يجعل بعضَ الرّعاة في موقع استرضاء المتزعّمين لحركة أو لحركات حقوق الطّائفة! ثمّ شاء الأساقفةُ أو لم يشاؤوا أن يعلنوا أنّهم هم المتكلِّمون باسم الطّائفة، وأنّ الهيئات الّتي تنشأ هنا وهناك، مِن قِبل بعض أبناء الطّائفة، هي اجتماعيّة أو سياسيّة الطّابع، ولا تمثّل الطّائفة الأرثوذكسيّة، فإنّ هذه الهيئات تتكلّم كما عن الأرثوذكس، في كلّ حال، وهكذا يَنظر إليها الآخرون، في الدّاخل والخارج معًا، كهيئات تمثّل الطّائفة الأرثوذكسيّة!
فما العمل لجمع ما هو آخذ في التّفرّق، وتقويم ما هو آخذٌ في الإعوجاج؟ الإجابة ليست سهلة، وللامبالاة في البحث عن معالجة حالة قاسية كهذه، تفرضُ نَفسَها، نتائجُ خطرة! نحن أمام تحدٍّ صعب، والرّجاءُ أن ينبري المسؤولون والمؤمنون، بعامّة، لتعاطي الأمرَ بالجدّيّة الّتي يستحقّ؛ وإلاّ سنجدنا عرضةً لبلبلة وضعضعة يُلقيانا في المجهول، فوق ما نحن مبلبَلون ومضَعضعون!