استغرب بعضهم أن يفرز المجتمع اللبناني انتحاريين يذهبون إلى الموت بإرادتهم مصطحبين معهم بعض المستهدَفين وبعض الأبرياء الساعين إلى رزقهم ورزق عيالهم. ولا يثبط من عزيمة هؤلاء الانتحاريين أن يكون بين ضحاياهم ممّن هم من أهل ملّتهم. ما يرونه فقط هو أنّهم عابرون تواً من هذه الدنيا إلى جنّة موعودة تتحقق فيها كل شهواتهم.
بيد أن مَن يراقب بعين موضوعية أحوال لبنان واللبنانيين لن يستغرب أن ينتج المجتمع اللبناني هذه الظاهرة الإجرامية. فالانتحاري الحامل الجنسية اللبنانية أو الذي شبّ في لبنان، لم ينشأ ويتربَّ في الخارج، ولم يأتِ من كوكب المريخ. هو ابن مجتمعه وبيئته ومحيطه الذي عاش فيه. هو ابن هذا المجتمع الذي معظمه يعتبر أن الانتماء المذهبي أو الطائفي هو فوق أي انتماء آخر، ولا سيما فوق الانتماء الوطني.
الانتحاري اللبناني هو ابن شرعي لما يُسمّى “الأعجوبة اللبنانية” التي يكيل لها المديح الشعراء والمغنّون والمنظّرون والسياسيون ورجال الدين. فالأعجوبة الحقيقية تكمن في ألا يلد هذا النظام الطائفي انتحاريين يستعجلون الموت لهم ولسواهم في سبيل مجد مذهبهم ومصالح ماسكي أمور هذا المذهب. ولا يسع مجتمعاً غارقاً في الطائفية أن يتنصّل من مسؤوليته عن استيلاد هؤلاء الانتحاريين.
منذ قرن ونصف قرن، وأكثر من ذلك ربما، تحيا بلادنا على الحقن الطائفي المتبادل، وعلى الشحن المذهبي، وعلى النزاعات والحروب الداخلية. وبدلاً من القضاء على أصل العلة في تأجيج الاحتقان الطائفي، ترانا نوغل أكثر فأكثر في الإثارة واللعب على المشاعر الدينية واستغلالها في الميدانين الوطني والسياسي.
كيف يمكن ألا ينتج مجتمع كهذا انتحاريين فيما هو يبث في نفوس أبنائه روح الكراهية والحقد تجاه الآخر المختلف؟ كيف يمكن ألا ينتج قنابل موقوتة وألغاماً من لحم ودم، وابنه ينمو على التعصّب الأعمى؟ كيف يمكن ألا ينتج انتحاريين، واللبنانيون يتغذّون منذ ولادتهم على حليب التمييز الطائفي والمذهبي؟
لمن الطبيعي، إذاً، أن يخرج من بين ظهرانينا انتحاريون. هم أبناء أصيلون لهذا المجتمع الذي احتلت فيه الغرائز مكان العقل، وحلّ فيه التمذهب مكان التديّن الحقيقي، وحلّت فيه الكراهية والبغضاء مكان المحبة والرحمة، واحتلّ فيه إله الهوى عرش الله الواحد الأحد، وحلّ فيه التعصّب الديني مكان الأخوّة الإنسانية، وألغي فيه الانتماء الوطني لمصلحة الانتماءات الطائفية الضيقة، واستُبدل فيه القريب والجار بالعدو المحتل.
الانتحاري هو أيضاً ضحية هذا المجتمع الذي يحاول تبرئة نفسه من مسؤوليته عن هذه الظاهرة. الانتحاري هو ضحية الجهل الديني المسؤول عنه بعض أصحاب المنابر، ضحية الدولة الغائبة عن الاهتمام بقضايا الإنماء وتحسين الأحوال المعيشية، ضحية السياسيين الذين يتوسلون الخطاب المذهبي لترسيخ سلطتهم ونفوذهم، ضحية الإعلام الفئوي العامل على إثارة الفتن.
الانتحاري ليس وليد ذاته، هو وليد المجتمع. المجتمع كله ساهم في إنتاجه، ولا يمكنه التنصّل من أبوّته له. والقضاء على هذه الظاهرة لا يتحقق بسوى استئصال الورم الطائفي الخبيث القابض على كل الجسد الوطني المقطّعة أوصاله. الانتحاري مرآتنا، بل هو واحد منا.