كلمة صاحب الغبطة في الذكرى السنوية الأولى لانتقال المثلث الرحمات البطريرك هزيم

mjoa Monday December 2, 2013 131

“إنسان هذه المنطقة حبيبنا. نحن من هذه الأرض نطلع فنتصاعد إلى السماء. نذهب حتى جذور تاريخها ونمتد إلى غدها على مركبة الرجاء. نحن لسنا طائفةً يقف همها عند حدودها. نحن ومضةٌ ونبضٌ ونسغٌ حتى يتألق الجميع ويطمئن الجميع. ونحن على المصلوبية حتى لا ينوء أحدٌ سوانا تحت الصليب. وإنّ لنا من الحب والرؤى اللاهوتية ومن ممارسة هذه البلاد ما يجعلنا نشعر بأننا لُحمةٌ بين طوائفها جميعاً” . (من كلمة غبطته في حفل تنصيبه في الكاتدرائية المريمية في دمشق، 8 تموز 1979)

هذا ما قلته يا سيدنا إغناطيوس في الكنيسة المريمية يوم قُلّدت عصا الرعاية والأبوة أواخر سبعينيات القرن الماضي. وهذا ما تردد صداه قلوب المؤمنين المجتمعين ههنا كما جدران هذه الكنيسة الشاهدة على عراقة وأصالة إيمان كنيسة الأنطاكيين.

1453343 395559860547733 1777368693 nلسنا هنا لنرثي إغناطيوس الرابع بل لنستذكر من خلال حياته مالَه أن يُترع قلوبنا رجاءً ويلهبها غيرةً وحميّةً. حين يتكلم المرء عن إغناطيوس الرابع يجد أن الكلمات تخونه وتخذله في ذكرى ذلك الطفل والشاب والطفل والشيخ الوقور الذي التقم منذ صباه محبة الرب من أهلٍ وديرةٍ طيبةٍ فاعتجن بخمير التواضع و”تنهنه” على صاج محبة الرب فأفاح عرف طيبه للعالم كله.

حين يتكلم المرء عن الإغناطيوس، عن الناريّ اسماً-كما يدل معنى اسمه في اللاتينية- وعن الناري فعلاً وموقفاً، فإن نار الغيرة الربانية تلظّي قلبه بذكر ذلك الفتى –حبيب- الذي احتضنته كنيسة محردة مرتلاً متتلمذاً على يد أبيه. ونار الغيرة هذه ترسمه في مخيلة كلٍّ منا مغادراً بلدته سنة 1936 وهو ابن الستةَ عشر ربيعاً وقاصداً طرابلس ومنها إلى بيروت حيث رأى ما سمّته كتب ذلك العصر “الحداثة” أو “Modernity”. وفي بيروت عرف الفتى كيف يكون كالنحلة الحكيمة، التي يتكلم عنها القديس باسيليوس الكبير، والتي ترى كل شيء وتنظر كل المروج ، لكنها لا تنغمس في كل شيء بل تنتقي بديع الأزهار فترتشف رحيقها وتبث محيطها عسلاً خالصاً مختمراً بحب الرب وعشق كنيسته المقدسة. درس الشاب في بيروت واحتضنته محبة راعيها آنذاك، فعرفت الجامعة الأمريكية ذاك الشاب الذي لم يخجل يوماً بثوبه الكهنوتي في رحابها ولم يأل جهداً في تلقف كل العلوم الإنسانية. وهنا قد يقول قائلٌ أن علم العلوم ومحجّة المعارف هي الصلاة والصلاة وحدها وهذا صحيح، إلا أن الجواب هنا يأتي من الآباء من أمثال الذهبي الفم وغيره الذين توسّلوا علوم الدنيا الأرضية بأسرها ليوصلوا اسم الرب إلى الشفاه ويوطّنوه أفئدة الناس وكيانهم. ومن بيروت آثر الشاب، الذي صار الشماس إغناطيوس، آثر طلب العلم اللاهوتي في فرنسا وفي معهد القديس سرجيوس، فدرس هناك ونال أعلى الشهادات وعاد إلى مطرانه ليتسلم إدارة مدرسة البشارة.

سيم كاهناً وأرشمندريتاً ومن ثم أسقفاً سنة 1962. وفي السنة عينها انتدبه البطريرك بناء على رغبته هو لرئاسة دير البلمند. ولم تكن التلة البلمندية حينها تتخيل أنها ستتجلى بحضور أسقف بالميرا وتنفض عن شرارة روحها غبار الزمن وترهل الماضي. وفي البلمند سقى الأسقف الشاب كنيسة المسيح بعرق أتعابه فأشرف على بناء المدرسة واصطبغ ذكره بمعهد اللاهوت. ومن البلمند انتدبه المجمع مطراناً على اللاذقية، وفيها ربّانا واحتضننا فتياناً يُفعاء مرشداً خطانا إلى ديار الرب. وفي تموز عام 1979 اختارته المشيئة الإلهية خلفاً للمثلث الرحمة الياس الرابع وسائساً عرش الرسولين.

وسأذكر في فترة بطريركيته حادثةً أراها تعبر عن وجه إغناطيوس الرابع حتى يومنا. في سنة 1988 وفي ذروة أحداث لبنان المريرة أطلق غبطته مشروع جامعة البلمند. يومها قيل له “أتراها ظروفاً وأحوالاً مناسبة تلك التي تكتنفنا لنبني معاهد وجامعاتٍ؟ فأجاب: “إذا كان قدرهم أن يدمّروا فإن قدرَنا أن نبني ونبقى”. وهذا بالفعل ما يختصر حالنا الآن في المشرق كله؛ إن كل مشاهد الموت والدمار لن تقتلعنا نحن المسيحيين من أرضنا، لأن أرض مسيحيي أنطاكية هي كينونتهم. وإن أجراس كنائسنا التي قرعت وتقرع من غابر الأيام ستقرع دوماً بعنفوانٍ وبقوةٍ وستسمع صوت المحبة والتآخي مع الغير إلى أقاصي الأرض. أجراس أنطاكية أجراسُ محبةٍ وتآخٍ لا تُسكتها وعورة التاريخ ولا تُنيخها صعوبات الحاضر التي لن تزيدنا إلا تشبثاً بالأرض ورجاءً وطيداً يمحو رماد التجارب.

أطلب إليك يا سيدي من هذا المنبر، من البلمند الذي سقيته من إكسير محبتك، والذي اعتادك أباً وواعظاً ومدبراً لعروسة المسيح، أن تذكر هذا المشرق والعالم كله في صلاتك. أسألك بكلمات شفيعك القديس إغناطيوس الأنطاكي “أن تصلي من أجل الكنيسة التي في سوريا التي المسيح ناظرها ومحبّتك” (رسالة القديس إغناطيوس الأنطاكي إلى أهل رومية) . اسْأل المخلص أن ينزل على سوريا الحبيبة سلامه الإلهي وسله أيضاً الرأفة بإنسان هذه البلاد والشفقة بالذين أخطؤوا وأعوزهم مجد الله. قل له أننا لا نخشى التجارب لأننا نستمد من محيّاه مواطن القوة، لكننا بالنهاية بشرٌ تجتاحنا الرهبة أمام تجرع كأس الآلام. قل للمخلص أننا نفتقد أخوينا المطرانين يوحنا وبولس ونسألك حفظهم وردّهم وسائرَ المخطوفين سالمين معافين.

ارنُ يا سيدي من عليائك وتعهّد لبنان الغالي وسل المخلص أن يغرس سلامه في ربوعه وفي قلوب بنيه، فيعرفوا جميعاً أنهم مؤتمنون على بلد الأرز الغالي ويتعلموا من الأرز الذي يبسط أفنانه أفقياً ويرتقي أعالي الجبال، أن بلوغ المجد والعلى والرقي بالدولة والمجتمع يتم بمد اليد أفقياً وبملاقاة الآخر وقبوله والنهوض معه بأعباء هذا الزمان.

لقد ائتمنك المخلصُ يا سيدي عل كنيستنا التي، على عهدك لملمَتْ جراحها واستعادت وحدةً كنسيةً صدّعتها أهواؤنا. صلّ إلى الرب أن يمسحنا جميعاً ببلسم حكمته لنصون هذه الكنيسة واحدةً لا غضن فيها ولا شائبة. صلّ إليه أن يفقّه أبناءك في أنطاكية ويزرع في قلوبهم أن كنيسة من تسمَّوا أولاً مسيحيين جديرةٌ وتستحقُّ منهم كل الجهود التي تصونها واحدةً يتجلى فيها رونق وبهاء الرب يسوع.

سله أن يكتنف عالمنا وبلداننا بظل جبروته الإلهي ويمسحها بفيض شفقته الربانية، هو المبارك والممجد أبد الدهور آمين.

 

من كلمة البطريرك يوحنا العاشر في الذكرى السنوية الأولى

    للمثلث الرحمة البطريرك إغناطيوس الرابع
    دير سيدة البلمند، 1 كانون الأول 2013

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share