القارئ ينتظر الكاتب، الكاتب الحق. انه لا ينتظر منه ما كان أقل من الحياة. يعتقد انه يتكون بمقدار، قل أو كثر، ممن كتب لأن هذا له علاقة بالفكر أي بالحقيقة. القارئ يحس ـ هذا ما قالوه له ـ انه يتكون من الكاتب لأن هذا يعيش من أجله. أجل، يكتب من كتب لمد الآخرين بما يحسبه الحقيقة. الكاتب الكبير انسان يحب الحقيقة أي انه يكتب ليخلص القارئ. الكتابة عند كبار الكتاب عملية خلاص لهم ولمن يقرأهم. والقارئ يحسب انه يتكون بما يقرأ أي انه يجيء من الصالحين لأن المعرفة موصولة.
انت تقرأ لكونك تحسب أنك ترث الحقيقة، لأنك تلتمس الله بفكره وفكر الذين عرفوه. بهذا المعنى كان القارئ متواضعاً. الفكر تواصل بين أهل الحقيقة. ذلك أن هذه تتجلى بأشخاص انتدبهم ربهم ليعرّفوا الناس به. تقرأ العظام لأن هؤلاء كانوا مختارين. والعظام يعرفون أن الرب صانعهم ولذلك لا يستكبرون.
الرب يلهم من يشاء ويلهم أحيانًا الذين لم يطلعوا على التراث. أما أسلوبه الطبيعي في أنه يروضنا بمن سبقنا فيلد بعضنا من بعض. هذه طريقته في تكوين التراث. هكذا يظهر فكر الله كي لا يستكبر أحد. كل منا يتكون من أسلافه. يقرر من هم أسلافه لأن السلف هو من اخترت أن تحبه. القارئ يعرف نفسه مولوداً. والكاتب العظيم كذلك. في الكتابة ليس في الحقيقة من إبداع. الإبداع أسلوب. انت تحب وتأتي بصيغة. في البدء لم يكن إبداع بشري. كان الكلمة. وكما فهمها أفلاطون والانجيلي يوحنا هي كلمة الله أي هو نفسه. أنت، كاتباً، وان شئت أن تعطي ما هو دون الله تكون خائناً له إذ لا يزاد على الله شيء.
قارئاً، فرادتك ان تختار ما تحب أن تتمثله. تجيء من السلف ولكنك تنجب أيضاً. الإبداع هو بين الاستمداد والعطاء. ما تقرأه يصير أنت. هكذا يجيء منك من قرأك ولكن مولودك ليس أنت. فيه خلقه.
الجاهل القراءة يحسب انه يجيء من نفسه، أن أحداً لم يسبقه أو أنه لا يحتاج الى أحد. المقبل على المطالعة في نهم يحس أنه يتكون من الذين فكروا، اننا نحيا بمن سبقنا في التأمل، في أن الإنسانية واحدة والزمان واحد وأننا نشتق بعضنا من بعض. لذلك كان العالمون هم المرجع. والعاديون يحسبون أن العارفين ملمون بكل شيء. القارئ الحق متواضع لاحتسابه انه يتكون من الأجيال التي فكرت وأنه جاهل بمقدار. قصته أنه كلما ابتلع الكتب يحس بجهله إذ يدرك جمال ما لم يكن يعرفه.
عذاب المثقف الحقيقي أنه كلما اطلع ينبسط أمامه مدى جهله. لذلك كان العالم الحقيقي متواضعاً. أظن أن بعض ما يجذب المطالعين الكبار هو اتساع الفكر البشري وأنهم لا يزالون جهلة. غير أن جمال المثقف ليس في سعة عقله ولكن في إداركه أنه صغير أمام سعة الدنيا وبهاء الذين سبقوه في مضمار العقل. يدرك في متسع من الوقت ان العقل هو الذي يجعلنا نستوعب الآخرين وفرادتهم وحقهم في التفرد. وحدة العقل لا تتناقض وتعدد العقول.
مشكلة المثقف إذا ينام ولم يتح له في نهاره أن يقرأ صفحة واحدة. يشعر، عند ذاك، أنه جاء فقط من نفسه ولم يأت من التراث. فكما أن الجائع لا ينام كذلك يطمئن ذاك. ذاك الذي انكب على المعرفة وأهملها في يوم من أيامه.
القراءة في تعدد ما تطالعه وفي تنوع مصادره. هي شغف بالفكر الحق أنى توجهت ركائبه. هي أن تواجه قريبك في القناعات. هي أن تجيء دائماً من الآخر، من كبار الآخرين. هؤلاء يجب أن تعرفهم قبل أن تقتني كتاباً لأن التفاهات كثيرة. اقرأ أولاً من كان مع الحقيقة إذ لا بد في طريقك ان تلقى الطالحين. انت يكونك أهل الحق. اذا تلقيته من الأسلاف يثمر فيك بإبداعك أو طاعتك له. المهم ألا تنحاز مع كل هوى، أن يكون قلبك قد اختار قلب الله ليفهم. امتلئ من الكثير وافهم مختاراً الصالحات. ردد الصالحات ان كنت لست من المبدعين. في هذا تواضع مفيد إذ يكون أفضل من جهل المدعين. لا تقل يا نفس كيف أكون عظيماً. اسألها أن تطيع الحق. إذا كررت هذا في قوالبه يكون أفضل من أن تبتدع تعابير تظنها شيئاً لأنها حديثة وهي خالية المضمون.
لا يكن همك أن تكون مبدع التعبير والقول. همك الوحيد أن تصبح تلميذ الحقيقة التي تنجي وحدها. لا تسأل عن جمال القول إن كنت كاتباً أو خطيباً. افحص نفسك ان ثبتت مع الحقيقة. هذه وحدها تنجي وهي تملي عليك ما يجب ان تقول. لا تقلق ان لم يتوفر لك جمال التعبير. اقلق فقط إن أحسست أنك لا تزال جاهلاً ما لا يسوغ جهله. لا تعرف ما يظهرك جميل القول. اعرف ما يجعل سامعك جميلاً عند ربه. اللغة وحدها صنيعة. إن كنت تقول الحق لا تهمك اللغة.