مأساة الأعمى ليست في أنّه لا يُبصر، بل، في قلبه، أنّه لا يريد أن يبصر! كلام غريب أنّ ثمّة أعمى لا يشاء أن يبصر؟! الحقيقة أنّ الإنسان، كلَّ إنسان، في أعماقه، أعمى، لا يشاء، عمليًّا، أن يُبصر! قلّة تعي ذلك وقلّة ترغب في أن تُبصر في الحقّ! الأكثرون في غياب! ما معنى ذلك؟
العمى الخارجيّ، عمى الحدقتَين، مجرّدُ مؤشِّر لما هو أبعد. إلامَ يشير؟ ما دام أنّ هناك أعمى واحدًا، بيننا، فكلّنا تحت لعنة العمى! العمى ليس من الطّبيعة! العمى أساسُه في الكيان! مؤشّر خلل! لماذا فلان أعمى وليس فلان؟ هذا واقع عَرَضيّ! كلٌّ، بلا استثناء، قابل له! بعضٌ يُولَد أعمى وبعضٌ يَعمى بحادث وبعض يبصر. لماذا؟ لا جواب يقينيًّا بالضّرورة! حقيقة العمى أعمق من أن تنطفئ المقلتان! لمّا سألوا الرّبّ يسوع: “مَن أخطأ، أهذا أم أبواه حتّى وُلد أعمى؟”، لم يُجبهم عن سؤالهم! أجاب كَعَن سؤال آخر، أو كَعَن سؤال كان بديهيًّا لديه أن يُسأل ولمّا يفعلوا! “لا هذا أخطأ ولا أبواه، ولكن لتظهر أعمال الله فيه”! عن أيّ أعمال يتكلّم؟ لمّا سألوه: “ماذا نفعل حتّى نعمل أعمال الله؟” أجاب: “هذا هو عمل الله أن تؤمنوا بالّذي هو أرسله” (يوحنّا 6)! ما معنى هذا؟ معناه أنّ العيان بالإيمان، ومن دونه عمى!
إذًا النّور بالإيمان، والنّور والعين من طبيعة واحدة، وبِلاه الإنسان غريق الظّلمة! وفي الظّلمة كأنّ العين لا تكون! ما النّفع أن تكون لك العينان مفتوحتَين، وقلبُك معتمًا، لا إحساس فيه بنبْض الحياة في ما حولك ومَن إليك؟! فقط للنّفسانيّين الجسدانيِّين القيمةُ هي، بالحري، للعينين الحسِّيّتَين! كم من النّاس عماهم كان ليكون خيرًا من إبصارهم! إذًا لكانت لهم فرصة أن يصير لهم قلب من لحم لا من صخر! وكم من ناس عيونهم منطفئة، ومع ذلك يبصرون! كيف؟! سلوا القدّيس أنثيموس الأعمى (4 أيلول)! عَمِيَ وطلب أن يُشفى. أبقى عليه ربُّه أعمى. القولة كانت: ليس حسنًا لك أن تبصر! كأنّه لو أبصر لكان ليكون الأمر على حساب بصيرته! في المقابل منّ عليه ربّه بنعمة خوّلته قوّة فوق العينيّة، حتّى حسّيًّا! الأب برفيريوس الرّائيّ، المعلَنةُ قداستُه في أوّل كانون الأوّل الفائت، كان، في أواخر أيّامه، أعمى، كمَن لا يحتاج إلى حدقتَين، بعدُ، إذ حباه ربُّه عينين داخليّتين مشعّتين ليبصر الأمداء والأعماق والخفيّات، سواء بسواء! ربُّه صار عينَه! بالحبّ الإلهيّ يُعطَى ابنُ آدم أن يصير أبصرَ بصيرًا! النّور غير المخلوق يُمسي عينَه! في نهاية المطاف، العين نور! نور هو الله! يبصر ولا عين له!
هذا ليس لنقول إنّ الإنسان ليس، أو لا قيمة لأن يكون له جسدٌ سليمٌ، بل لنقول إنّ القيمة الأقيم هي للقلب الخاشع المتواضع، وإنّ الجسدَ مَطَلٌّ للكيان؛ وسلامةُ البدن، ولو كانت عزاء وفرحًا ومتعة وبَرَكة، فالسّلامة الأوفى، بعينين حسّيّتين تبصران، أو من دونهما، هي أن يكون الجسد مُشِّعًا بنور القلب المستمدَد من الشّمس العقليّة! ثابور وحرمون باسمك يتهلّلان! “هلمّوا خذوا نورًا من النّور الّذي لا يغرب ومجِّدوا المسيح النّاهض من بين الأموات”.
“لدينونةٍ أتيتُ أنا إلى هذا العالم حتّى يُبصرَ الّذين لا يُبصرون ويعمى الّذين يبصرون” (يوحنّا 9: 39)!
بعدما غادر الإنسان ربَّه إلى “بلاد بعيدة”، استحال كلُّ ما أسبغه العليّ على خَلقِه، من بركات، مساعِداتٍ على الإثم لأنّ قلب الإنسان استبان شرّيرًا منذ حداثته! كلّما توفّرت له، بوفرة، ما كانت تُعتبر “عطايا إلهيّة”، تيسّرت له أسباب اللّعنات بالأكثر! صار ما كان يُعزى لله لديه عثرةً! والذّروة كانت أن يُحسَب الإثمُ من الله، واللهُ صنعةَ الإثم! ليست العبرة، يا هذا، في ما تُعطَاه بل في كيف تتعاطاه! لذا استبان الكفرُ في أن تتعاطى ما لربّك حيث لا ينبغي! هذا روح ضدّ المسيح!
أمر مأسويّ أن يمسي المرضُ إطارًا أوفق للقربى من الله، رغم أنّ العافية هي الّتي منه لا الاعتلال! لا أقول المرضى بل المرض، لأنّ كثرةً من المعتلّين تحزن وتيأس وتكفر ولا رِضًى فيها! لم تعد الصّحّة، بالحري، المعينةَ على التّوبة، بل المرضُ! الأصحّاء في البدن يميلون، بالأكثر، عن الله لا إليه! القدّيس برفيريوس الرّائيّ، بهذا المعنى، لاحظ أنّ السّماء تمتلئُ من مرضى السّرطان! طبعًا، الله روح والخلاص فعل روح، ولكنْ، أعجبُ أن يصير المرض والألم والشّدّة نطاق الخلاص! “بضيقات كثيرة”، قيل، “ينبغي أن ندخل ملكوت السّموات”!
كلّما زادت أثمارك اشتدّت التّجربة عليك: أن تبطر وتستغني، عمليًّا، عن الله، وأن يتّسع مجال نشاط أهوائك وأن تهن فضائلك! وكذا الجمال! كلّ أنواع الأبالسة تحتفّ بمَن زاد جمالُها! ومَن نَقُص حلاها، لاعوجاج نفسها، تطلبُه بكلّ موادّ وطرائق اصطناع الجمال، في كلّ حال، وبهوس كبير! المشكلة أنّ القلب انقلب!
الفقر والمرض والجوع والغربة والتّعب والألم، والحرمان، بعامّة، باتت، بالأكثر، إذًا، قرينةَ، لا بل الحاجة إلى التماس وجه الله، وكذا الأقنيةَ المؤاتيةَ لعمل الله وسكنى روح الرّبّ في نفوس العباد! لذا تجسَّد ابن الله في الفقر والغربة! واختار، رسلاً، جهّالَ العالم والضّعفاء والأدنياء والمزدرى وغير الموجود… ليُبطِل الموجود! الموجود، المألوف، المرغوب به، بات مَوطنَ الباطل! الرّاحة الّتي ينشد العالمُ باتت للتّعب! المعايير انقلبت! بات علينا أن نبحث عن الرّاحة في التّعب، وعن الشّبع في الجوع، وعن الفرح في الحرمان! حكمةُ الله أضحت جهالة للعالم، وحكمة العالم جهالة لله!
إلام كان يمكن أن يُفضي هذا الواقع المستجدّ، منذ ما نسمّيه السّقوط، أي منذ أن تحوّل الإنسان من انعطافه التّلقائيّ على الله، في ما عُرف بـ”الفردوس”، إلى انكفائه، أطيافًا، كلَّ واحدة على ذاتها، وفرادى، كلَّ واحد على نفسه، في ما جعل الأرض جحيمًا، وكلَّ أحد، بإزاء الآخر، عدوًّا، يتقاتلون حتّى التّلاشي، على قولة الرّسول المصطفى في غلاطية: “إذا كنتم تنهشون وتأكلون بعضكم بعضًا، فانظروا لئلا تُفنوا بعضكم بعضًا” (5: 15)؟!
بكلّ بساطة إلى الموت! يطلبون الحياة فيأتيهم الموت! يلتمسون الخلاص فيأتيهم الهلاك! مهما فعلوا، طالما بَعُدت عنهم مخافةُ الله فلا جدوًى ممّا يفعلون حتّى يتوبوا! أَلَمٌ وذلّ وهروب! “أقوم أعود إلى أبي”!
حلاً من اثنين ليُستَعادَ الإنسانُ إلى جادة الصّواب: النّسكُ أو البلايا! إمّا يختار الإنسانُ الجوعَ بالصّوم طوعًا، وكذا التّعبَ بعمل الطّاعة والحرمانَ بالقسوة على النّفس والغربةَ بهجران روح العالم، وإمّا لا تكفّ البلايا على النّاس، حروبًا وكوارث ومجاعات وأوبئة حتّى يتوب أو يفنى! النّسك، للإنسان، في الواقع الرّاهن، لا مناص منه للخلاص! لماذا، لا مناص منه؟ لأنّ الله إلى الإنسان وقد شاء له العزّة؛ لذلك لا يُخليه حتّى يأتي به إليه، لأنّه محبّة! لذلك إمّا يأتي الإنسان إلى ربّه من ذاته، وإمّا يشدّه إليه، بالألم، عنوةً! فإن عاند الإنسان إلى المنتهى وكَفَر، فله ما يريد! الآب، للابن الشّاطر، في الانتظار! وما يترك فرصة لخلاص مخلوقه إلاّ ينتهزها، لأنّه يشاء الجميع أن يخلصوا! ربّك باقٍٍ على أورشليم باكيًا!
لذا كانت الرّهبانيّةُ، كسِيرة، نطاقَ الحياة المستجدّة على الأرض! ضربًا من الفردوس المستعاد، حتّى يستقرّ الإنسان في الملكوت! ظاهرُها، في عين أبناء هذا الدّهر، خاوٍ! الصّليب لليهود عثرة وللأمم جهالة! الرّهابين، للدّهريّين، زمرة هروبيِّين! لا بأس! إن كانوا قد اضطهدوني فسيضطهدونكم أنتم أيضًا! أمّا، بإزاء خواء هذا الدّهر، وما صار إليه ما تحت الشّمس من بطلان، فالرّهبان، في المبدأ، هم المعتوهون الحكماء، الّذين يقرأون لغة الوجود بواقعيّة أخّاذة، فيما يغور الأكثرون في إيهاميّة خانقة حتّى الكذب الكبير!
وما الرّهبانيّة مؤسّسةٌ بل تيارُ حياة جديدة! مسيح الرّبّ أوّل الرّهابين، وإنجيلُه دستور رهبانيّ، ورسله وتلاميذه سلالةٌ رهبانيّة تنشئ على الحياة الإلهيّة حيثما صُلِبَ مسيحُ الرّبّ! “العشب يبس، والكلأ فني والخضرة لا توجَد”! (إشعياء 15: 6)!
إلى هناك عين ربّك، إلى هناك تشوّفُه! بعدَ العسرِ اليسرُ يأتي! للرّبّ خاصّةٌ تسمعه لتبقى ملحَ الأرض، خميرةَ الفطير، نورَ العالم! يطلع العجين بعدما يكون قد يبس! “في شوارع أورشليم المدمّرة الّتي لا إنسان فيها ولا بهيمة”، قال الرّبّ في إرميا، “سيُسمع صوتُ الطّرب وصوت الفرح، صوت العريس وصوت العروس، أصوات القائلين: إحمدوا ربّ القوّات، لأنّ الرّبّ صالح، لأنّ إلى الأبد رحمته، وأصوات الّذين يقدِّمون ذبيحة الشّكر في بيت الرّبّ…” (إرميا 33: 11)!
الأرشمندريت توما (بيطار)
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي – دوما