تبنّى المسيحيّون في سوريا، طوال القرنين الماضيين، الطروحات العلمانية في سبيل إنهاض وطنهم وقيام الدولة المدنية، دولة المواطنة التي تسودها المساواة التامة، ويتمّ فيها فصل الدين عن الدولة فصلاً تاماً. وتجلّت هذه الطروحات في التزام العديد من المسيحيين الأحزاب ذات الطابع الوطني أو القومي أو الأممي، حتى أن معظم هذه الأحزاب أسسها، أو كان من عداد مؤسسيها، مسيحيون. وساهم المسيحيون في سوريا، على سوية واحدة مع المسلمين، في النضال ضد الاستبداد العثماني، وضدّ الانتداب الفرنسي، وضد الاغتصاب الإسرائيلي لفلسطين… ولم يكن لديهم، في أي حقبة، خيارات طائفية أو فئوية أو تقسيمية… بل كان خيارهم الوحيد إيجاد قواسم مشتركة تُبنى عليها الشركة الوطنيّة مع المسلمين وسواهم من المواطنين السوريّين.
ويفاخر المسيحيّون في سوريا بأن بلادهم، على مرّ التاريخ، كانت مأوى للمضطهدين الذين لجأوا إلى مدنها وقراها وصحرائها، ما جعلها متنوّعة الأعراق والثقافات واللغات، ومتعدّدة الديانات والمذاهب. أما آخر مَن وجد فيها الأمان فالمسيحيون الأرمن الذين استهدفتهم المجازر العنصرية التركية، فاستقبلهم أبناء حلب وسائر سوريا، مسيحيين ومسلمين، ضيوفاً مكرّمين ثم مواطنين كاملي المواطنة.
عدم تحقّق أيّ من الأحلام الكبرى التي سعى إليها مفكّرو عصر النهضة، وفي المقدمة الدولة المدنيّة، يعود إلى أسباب كثيرة منها: قيام دولة إسرائيل، واعتماد الديكتاتورية ونظام الحزب الواحد والشخص الواحد وقمع الحريات نهجاً للسلطة والحكم… ما أدّى إلى ظهور حركات التطرف الديني التي تتبنّى العنف سبيلاً للوصول إلى أهدافها، وعلى رأسها قيام الدولة الدينية وفق مفهومها الخاص للدين وللشريعة.
اليوم، في ظلّ ما يجري في سوريا، تعلو في كل الطوائف أصوات فئوية تدعو إلى حماية مَن ينتمي إلى طائفتها متجاهلة المكونات الأخرى من الشعب السوري. فالسنّي يدعو من أجل السني، والمسيحي من أجل المسيحي، والشيعي والعلوي من أجل العلوي… هذه الأصوات معظمها لا يبتغي الحق والسلام في سوريا. فمَن يفرّق بين سوري وآخر، ومَن يعتبر أن دم مواطن سوري أثمن من دم سوري آخر، ومَن يعتبر أن حجارة أحد المعابد أثمن من حجارة معبد آخر، ومَن يعتبر أنّ ثمة قرية أهم من قرية أخرى، هو إنسان يحرّض على المزيد من التشرذم والفوضى.
ينبغي أن يحرص السوريون المؤمنون بالدولة المدنية وأهميتها، مسلمين ومسيحيين، على عدم الانزلاق إلى مواقف طائفية تعمّق الشرخ القائم وتزيد الهوّة بين ذوي النيات الطيبة. شئنا أم أبينا. السوريون، مسيحيون ومسلمون، مصيرهم واحد يرتبط بمصير كل مواطن سوري. فالدمار شامل وعام وليس محصوراً بالمسيحيين وقراهم وكنائسهم فحسب، ولا هو محصور بالمسلمين وقراهم ومساجدهم فحسب.
ونقول، ختاماً، ونعيد الكلام لـمَن ينبغي أن يتذكّر، إن المسيحيين في سوريا لا يحيون في جزيرة منعزلة، بل هم مع شركائهم المسلمين يؤلّفون نسيجاً واحداً… وأكثر ما يسيء الى المسيحيين هو أن تقتصر مطالبهم على ما يختص بطوائفهم وكنائسهم فقط… الكنائس والمساجد المهدّمة سوف نبني غيرها، ولكن الإنسان السوري الفريد الذي يذهب برصاصة فيا ليت شِعري مَن يستطيع استرجاعه… الإنسان، أي أنسان، هو أقدس من الأماكن كلّها.