بوينس آيرس، في 12 كانون الأول2013
مقتطفات من رسالة المتروبوليت سلوان إلى الدكتور كوستي بندلي (رحمه الله)
أبا إسكندر، المربّي العزيز بالربّ يسوع،
سلام وفرح وامتنان بالربّ يسوع للحياة التي من لدنه!
لم تصلك رسالتي التي كتبتها لك قبل مغادرتك إلى المساكن العلوية، لذا أكتفي هنا ببعض ما جاء فيها، تاركاً للربّ يسوع أن يودعك ما كتبتُ وما لم أستطع كتابته.
(…) ولو أنه مضى زمن لم نلتقِ فيه وجهاً لوجه، فإن هذا الأمر لم يلغِ تواصلاً قائماً بأشكال أخرى وعلاقة رافقتَ فيها درب نموّي واكتشافي لذاتي وللحياة، وللخدمة، وطبعتَ فيها، من دون أن أدري، معالم قويّة ترافقني كما أشعر اليوم هنا وثمّة خاصة في رعايتي في الأرجنتين. ولقد سبق لي، عبر الهاتف، أن عبّرت لك عن هذه المعيّة الجديدة والمعزّية بآن بالنسبة لي، ولا أشكّ أنّها كذلك بالنسبة لك، وإن كانت الظروف لم تسمح بعد بأن أشاركك بعضاً من حضورك الخفيّ المرافق لي، وللآخرين أيضاً من خلال اتصالي بهم والعمل معهم.
لربّما الغربة في مكان بعيد جدّاً عن مصادر حياتي وبيئتي (…) تجعلني أكثر حاجة للتواصل مع وجود إنسانيّ يبلسم هذا الانتقال الخارجي والداخلي بآن إلى عالم وخدمة جديدة بالكليّة عليّ. هذه الغربة تدفعني بالعمق إلى التفتيش عن معيّة حقيقيّة، أجد بعضها بالمطالعة، وبعضها الآخر بالتواصل المباشر، وبعضها الآخر بالحديث أو الكتابة، وأخرى بالصلاة التي أرجو أن ألج رحابها، كما يحصل معي في إصغائي لأترابي البشر (…).
عربوناً لكلّ ما يحصل معي، أودّ أن أهديك كلّ هذه اللقاءات العجائبية التي تحصل معي، سواء في المنازل أو اللقاءات العامّة، الخلوات أو المخيّمات التي تجري في الأبرشيّة، التي تحتوي كلاً منها على نكهة فريدة، لا يعطيها إلاّ الخالق وحده، والقادر على إبداع مثل هذه الأمور. أودّ أن أهديك أمراً يليق نوعاً ما بأتعابك الكثيرة، على مرّ السنين، بالإضافة إلى كلّ ما غنمتُه من خلالك عبر أحاديث ومطالعات حفرت فيّ معالم الخدمة وكشفت لي بعضاً من سرّ الإنسان والاصغاء والحوار والتربية والالتزام والإيمان، وهي بشائر لنموّ حثيث يتطوّر على غفلة منّي، وبتعجّب أيضاً، ولكن أراقب وجوده بفرح وامتنان. هبة الاصغاء أمر عجيب بالفعل، والدخول في سرّ البشر، معيّة تسمح بها الخدمة، بالإضافة إلى فتح باب أن يتشارك الناس بالإصغاء إلى بعضهم البعض والوقوف على أمر مشترك بينهم، لربما فيها بدايات لتقريب معنى الكنيسة الحية إلى قلوب الناس، ولو كانت المسافة لا زالت بعيدة جداً. (…)
هذه الهديّة بالذات تعني بالنسبة لي أن أقدّم لك أمراً يفرحك بالحقيقة، ولا أتحدّث عن نجاح فهو ليس بيت القصيد هنا (وإذا كان هناك شيء إيجابي، فيجب أن يتزكّى مع الزمن)، إنّما هذه الهديّة هي صدى لصوت صرخ في البريّة وقد وصل صداه إلى غير مكان. لا بدّ أن لهذا الصدى تردّد مختلف عن المصدر ومتمايز عنه، بالقوة والحدّة والنبرة والمفعول، ولكن، لا يغني عن القول أنّه صدى لصوت سُمع في مكان ووصل إلى مكان آخر. إنّه ليفرحني هذا المقصد الذي لك فيه حصّة وافرة، كما ومشاركتك إيّاه (…).
فيما كتبت سابقاً أشرت إلى كلمة – عجيبة – في معرض الحديث عن اللقاءات التي تجري معي. بالفعل، أودّ لو تسجَّل لما فيها من عناصر تدفع بالمجتمعين إلى لقاء بينهم، فيه يتجلّى الحوار، الاصغاء، والوحدة بصور تدهشني وتجعلني شاهداً لأمور مستغربة. إنّها لعطيّة أن يبني المرء بين الناس، أحياناً بين أفراد العائلة الواحدة، أحياناً بين أبناء الرعية الواحدة، أو المجتمعين من مناطق مختلفة، السلام والوحدة… أو بالأحرى، أن يساهم ببناء ما يكتشفونه بين بعضهم من عناصر لقاء حيّ، فعّال، محيي. لكم أشكر الربّ على تجلّي هذا الأمر بين الجماعة وفيها. وأنا أعرف كم تقدّر أنت هذه الأمور، وأنها تفرح قلبك العطش دوماً إلى الرجاء الحيّ، وأنت دوماً متوثّب إلى تبيّن معالم هذا الرجاء الفاعل في العالم ومشاركتك إيّاه أترابك في الإيمان والانسانيّة.
لقد تبلورت في حياتك رسولية وتلمذة عكستَ من خلالهما قراءة للإنسانية وللإيمان المسيحي ولمعطيات العلم الحديث والخبرة الإنسانية بعامة، وسعيتَ أن ترى فيها بذور الحياة والرجاء والقيامة، وعملتَ على كشفها للآخرين والدخول في حوار ولقاء ومكاشفة بشأنها، ولا زلتَ تدعونا إلى أن يكون التفاعل حيّاً وبنّاءً ومحييٍ للجماعة الكنسية وللشركة الانسانيّة بعامة.
لا شك أن الأمور تتبلور بقدر ما للمعاناة من دور وقوة واحتدام، عندما تأخذ هذه مجراها الحسن. لا شك أنك انبريتَ أمامها بصدق النفس والقلب العطش والإرادة الثابتة والذهن المتيقّظ والعقل الباحث والفاحص، بالإضافة إلى نور الإيمان الكاشف أمامك معارج الأمور ووجوه الأشخاص وبساطة الخليقة وتعقيدها بآن. هذه اللمسة التي لديّ عنك يستكملها استلهامك الحياة ببساطة كلية، باحترام وتقدير لها، حيث البساطة والعجيبة سيّان، إذ هما وجهان لعنصر واحد، هو عودة الكلّ إلى الله وتجسّد الكلمة بيننا. فقد جعل الربّ هذَين البُعدَين متماشيَين ومتمايزيَن بآن، ولكن بمتناول أحبّته البشر في مسعاهم على معارج الحياة.
كلّ هذا يعني بالنسبة لي رغبة في استلهام مسار انسان اكتشف الحياة وعاشها بالجديّة والتفاني اللذَين يميّزان مسيرة عمر، مسيرتك الشاقّة والحلوة بآن. ولكم أنا اليوم بحاجة أن أضيف على ثوب النعمة الذي يوشّح خدمتي، ثوب الصلاة الإيمان الحقيقي والتواضع والمحبة والبساطة. إنّها أمور توشّح بها شفيعي، القديس سلوان الآثوسيّ، والتي تعبّر عنها إحدى طروباريّاته: “بصلواتك اقتبلت المسيح على سكّة التواضع، والروح القدس شهد في قلبك لخلاصك، لذلك تفرح كلّ الشعوب المدعوّة إلى الرجاء وتقيم تذكارك…”. هذا كلّه رغم وجود النعمة الإلهيّة في حياتي الذي جعل من خدمتي أمراً وحياة عجيبة، وحوّلتني إلى شاهد لعملها بين الناس.
إذ تكتمل الصورة أمامك عمّا يخالجني (…) أقف موقف الشاكر لشهادتك ومعيّتك وحضورك. وأودّ لو استلهمها كلّها والحصول على القوة والنور والرجاء عبرها وفيها، كما أفعل مع غير شخص، كيما أجد مرتكزات في طريق الإيمان والحياة والخدمة الحقيقية والصادقة والبنّاءة (…).
كم أودّ أن يتجدّد لقاؤنا، وأستطيع أن أشاركك أكثر معارج الحياة التي تنكشف أمامي. لا شكّ أن هذا اللقاء سيأخذ منعرجاً آخر غير الذي اعتدتُ عليه سابقاً. وأقصد بذلك الصلاة التي طلبتها منّي. إنّي لأرجو أن أتعلّم هذه الخدمة الجديدة واللقاء الجديد الذي يجمع المتفرّقين إلى واحد.
(…) لا شكّ أنك ستحمل في خلجاتك ما بدر منّي، وفي هذا استكمال لدعائك عند سيامتي أسقفاً وذهابي إلى الأرجنتين، دعاء حمل معه أدعيّة الرجاء ووعد القيامة ونوراً بهياً “لقدس مجد الله الآب الذي لا يموت، السماويّ القدّوس، الغبوط، يسوع المسيح…”، تلك الترتيلة التي طالما كنتَ تختم بها لقاءات وأحاديث في بيت الحركة، التي أحملها مع أطياب أخرى في هذا العالم.
لا شكّ أن مسيرتك حملت معها، عبر هذه السنين التي غبتُ فيها عنك، انعكاساً آخر لما أعرفه سابقاً، ومرافقتك إيّاها لن تكون سوى بهذا الاستسلام الوديع والبسيط في الصلاة الحارّة، ليبارك الربّ خطواتك على طريق القيامة.
(…)
مع كل امتناني ومحبّتي، وذكري الدائم لك ولكل أفراد العائلة في الخدمة الإلهية،
+سلوان
متروبوليت بوينس آيرس وسائر الأرجنتين